منتديات مصنع سكر حلفا الجديدة
منتديات مصنع سكر حلفا الجديدة ترحب بالزوار من ابناء المنطقة وجميع الاحباب والمريدين داعين لمد جسور التعارف بين الجميع ودوام التواصل
منتديات مصنع سكر حلفا الجديدة
منتديات مصنع سكر حلفا الجديدة ترحب بالزوار من ابناء المنطقة وجميع الاحباب والمريدين داعين لمد جسور التعارف بين الجميع ودوام التواصل
منتديات مصنع سكر حلفا الجديدة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات مصنع سكر حلفا الجديدة


 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولمركز تحميل المصنع     مجموعة الفيس بوك

اهلا وسهلا بناس المصنع عزيزى العضو فى منتدى مصنع سكر حلفا الجديدة تفضل بالدخول الي المنتدي واذا ما مسجل معانا تكرم بالتسجيل والتمتع معنا ولقاء الاحبة والاخوان ومن فرّقتك عنهم طرق الحياةولو ما عارف كيف تسجل في المنتدي فقط إضغط زر ( تسجيل ) واتبع الخطوات ,واحدة واحدة,(الادارة بتفعل حسابك )

 

 دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ناصر البهدير
مدير عام سابق
ناصر البهدير


عدد المساهمات : 3674
نقطة : 16164
تاريخ التسجيل : 30/01/2010
العمر : 54
الموقع : البحرين

دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Empty
مُساهمةموضوع: دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!    دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Emptyالخميس 08 نوفمبر 2018, 9:44 pm

دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل! 
ناصر البهدير
أعظم إعاقة أمام الإنسان تجري في حياته، هي بلا شك ابتعاده عن أرض موطنه. لا يستطيع الإنسان أن يتحرر منها مهما أُوتِي من قوة وصلابة. حالي كحال من يسمع في رأسه طوال الوقت الحوارات المشتعلة والذكريات القديمة تطوف كلهب حريق قصب السكر في مطلع الشتاء الدافئ عند كل عام بنواحِ الحقول الخضراء. 
على يقين لا فكاك من هذا الداء العضال وضرام النار التي تحيا في القلب إلا بالعودة إلى الديار: مصنع سكر حلفا الجديدة. هل من عودة تاني! فالقلب رهين حقل السكر وسجينه على كل حال.
كأني في البعيد، مثل رجل ضاع طريقه بين الرمل حتى ملكه الصهد حكمة: أصغٍ بتجرد وتأنٍ إلى الأصوات التي تجتاحك بكل شفافية.. ستصل إن لم يكن في الحال، سيكون بعد حين من انتقال سحب البقاس التي ترسم لوحة تغطي أديم الأرض وعباب السماء كمسار هداية وطريق غواية.
لا إنتظر أحدًا لينشلني من متاهة المقارنة وحمم الحريق سوى أن أعود بقلبي وأرجلي طارقًا على الباب بكل رفق ومحبة ولوعة واشتياق.
كما إني لا أنتظر أحدًا ليعيد لي وصف المكان الذي رأيته من قبل، لأنه يستحيل عليك تصور رسمه خاصة عندما يكون انتباهك مركزًا على جغرافيته وبكل حواسك مستيقظ لأزمنة عتيقة ولت نحو العدم ولكنها خالدة في قلب عاشق متبتل بين فضاء محرابها.
حقيقة لا أنتظر أحدًا، وإن كان بارعًا في نقل البلد برمتها في لمح البصر عبر صورة ضوئية، مثل، الشاب الهميم يعقوب أوشي: هدهد السكر الأنيق.
قضيتنا أكبر من الصورة. فالصورة تختزل لك كل شيء في مجرد وصفة طبية قليلة الفعالية ومنتهية الصلاحية. الصورة تمارس عليك نوع من الطغيان والإكراه والتملق والخداع، كما لا تستطيع أن تجلب لك رهافة السراب الذي تمضي فيه نحو حريق المصنع حينما يشتعل وتهتف قلوب الشغيلة باليقين والإنتاج.
السراب الذي كنا نسير فيه حفاة وعراة نحو رؤية هول الحريق الذي يسكنه الخير.. على مدى البصر نحتفي به كما الشهيق الماطر الذي ينسرب ويعود بآثار النار التي تغطي سماء المصنع وتعمره بالإيمان والعزيمة وحب العمل.
بإنقضاء خريف كل عام، ومرور أوان الظهيرة، وحلول ميقات العصر، بالضبط عند الساعة الأولى مع نداء الصلاة الوسطى، يضج المصنع ويهتز كما حقوله وكائناته الحية من هول ألسنة النار التي تطوق البلد من كل ناحية.. النار التي تأكل الأخضر بشراهة ونهم، وكل من تأخر داخل حقول قصب السكر وانشغل بحصة العيش. ومن خرج سالمًا سكنه الرعب والخوف وشل جميع أعضائه.
تهب النار في أعالي السماء وعلى الأرض. الفرقعات والطقطقات تملأ كل جانب. وتهيمن السعادة البالغة على وجوه الشغيلة وعلى نحو خاص (الكتكو). أجواء عامرة بالصلاح والبشاشة، وطقس حافل بالنصر والبهجة والمسرَّة والغِبطة.
في المقابل تجري وقائع مؤسفة لا قِبل للناس بردها وردعها لطالما أمر وفعل النار أن تحرق. أمم الكائنات الحية تتضرر ولا عزاء ولا بكاء.
الحلوف (الخنزير البرّي) أكثرها تخلفًا في الاستشعار والهرب، وبوصلته الغبية لا تعينه ولا تدله على الإطلاق نحو أفق حلول واضحة إلا إذا شاء حظه مصادفة في النّجاة رغم ضخامته وقوته وشراسته في الدفاع عن نفسه. والأرانب أضعف مخلوقات الله وألطفها كحال العصافير أروع مخلوقات الله التي يحاصرها اللهب قد تجد ملاذًا في اليابسة بعد رهق وكبد. أما الكلاب الضالة تطلق ساقيها للريح والدخان وبينها وبين الموت لحظات نشوة فالتة؛ إن أكملتها ماتت في حفل الشواء الكبير، وإن تركتها لنزوة قادمة كان أجدى لها ولنا من الروائح الكريهة التي تزكم أنوف الكتكو: أصحاب الذراع الطويلة. أكثر الناس سرورًا وضررًا في مهرجان حفل شواء الهواء الطلق في مطلق الأحوال؛ خسارةً وربحًا.
أما (حمام الشقوق) تخذله سكناه في جوف الأرض. دائمًا ما يضيع في زحام تيارات النار التي تقضي عليه أثناء بحثه عن منفذ، ومن سوء حظه كائن صغير لا يمتلك الأجنحة ولا سرعة الذئاب التي تعتبر أول من يهرب مستغلة حدة ذكائها. تسخدم الذئاب العواء بمعدل مرتفع كلما خرج أحدها من محيط المكان لضمان تماسك القطيع. وتتشكل موسيقى خليط وتصنعها قوى الطبيعة بتلاقي شهيق النار وعواء الذئاب. والذئب الذي يعوي يسيل لعابه ويختلط برماد النار وقيامة قصب السكر، وهما في صراط العبور إلى حياة جديدة.
ما أذكى السنجاب حين يحاصره الموت. الأنفاق عديدة بمستوى ذكائه وألمعيته وقت أن تداهمه المصيبة واللعنة الطارئة.
الحَيَّات رغم خبثها ودهائها ومكرها لن تنجو إلا بشق الأنفس من المحرقة الكبرى. تبقى عظامها الإبرية عظة وعبرة ومخافة لكل من مر بالحقل بعد الحريق.
"قصبنا إن اشتعل".. يحرق كل شيء وينضج كل شيء على مهل. فحبة السكر رحلة طويلة تبدأ من شرارة ذكية تندلع من عود ثقاب يقدحه أحد ما، وتمر بانعطافات القلق والصبر والعرق والنزاهة والصفاء والاخلاص.
"وانطلقت الشرارة"، كما قال أوشي في صباح الحريق البهيج. تلك حكاية نواصي خريطة الإنتاج التي تبدأ من الشرارة الصغيرة. وتنتهي هناك على دفتر الرصيد ربما يفوق الإنتاج الربط المتوقع أو يبقى في المعتاد من الحزم الوسطى.
فائض قيمة الإنتاج تعني الضحكة والإبتسامة التي تعلو وجوه الشغيلة وكل أهل المصنع. ويبقى العرس سكريًا ذا مذاق طيب وشهي وحلال ونضر. 
أعود مرة أخرى، للنار التي خلقت البقاس. بقاس الحريق الذي كان مناط دهشتنا وحبورنا وحبنا إلى أن تخلو الحقول من كل جذوع القصب الأخضر الريان.
وأركز قولي كما في السابق أترقبه بقلق ووجدان متعطش لكل الرماد السماوي الذي يسقط بعضه ويعبر الآخر حتى يصل الأصقاع البعيدة عن حقول مشروع السكر التحامًا بمزارع القطن والقمح والقرى القريبة ومدينة حلفا الجديدة.
من يهرب من سواد السماء إلا عاطل عن المودة! وقتها نتدثر بالظلال الخفيفة التي تقع ما بين مسرى البقاس والأرض.. ظلالًا خفيفة ورهيفة كعدسات النظر المظللة بالأزرق الفاتح الشفاف، تقلل من كمية الضوء الداخل إلى العين.
وتغيب أشعة الشمس وخيوطها الذهبية، تتوارى في البعيد جدًا. ويبقى كون المصنع الصغير حلة زاهية من الظلال الشفيفة. تتصلب رقابنا حين ننظر بكثافة إلى محيط السماء ونحن عالقون في روعة المشهد ولا نبالي إلا حين نقتتل على أجزاء صغيرة راقصة قادمة من الأعالي نحونا... نجري نحوها في سباق حميم ونحملها القطعة الصغيرة كدودة الصارقيل حين نفوز بها في قتال ضاري مع عمنا الحسين عند كل ترعة.. ونفرح فرحًا عظيمًا وهي بين أيادينا نحفها بالحب والحنان إلى أمد قطعة بقاس كبيرة قادمة... أما التي لا تجد لها نصيبًا من حبنًا، نقضي عليها بكل عنف بأقدامنا ونهرسها ونسويها بالأرض حتى الموت.
هكذا نقفز برشاقة من رماد بقاس إلى آخر، ولا نمل ولا نكل حتى تنقضي سحابة البقاس الكبرى وينتهي أجلها. هذه هي الحياة اللطيفة والجميلة التي عشناها بكل صدق وحب بين ربوع بلاد السكر الوريفة.
من يوم إلى آخر نظل نلهث وراء البقاس حتى ننسى هذا المهرجان ونجد أنفسنا في متاهة كرنفال القصب المحروق وعصير الليمون المركز وأشياء أخرى تجعلنا متماسكين كما الهواء الذي نقتسمه للتنفس بكل أريحية، ورائحة الترعة العفنة؛ مثار كل عشقنا وانتشاء القلب.
لن أنسى ما حييت رقصة الفتيات الصغار وهن مصلوبات تحت نُدف سحائب البقاس.. نُّتف ركامية سوداء كالقطن المندُوف تنزف جسدها الراقص الراعف على شاطئ الأمان، ترسم الثآليل والبثور التي تشوّه الأرض كما يظنن ربات البيوت.
البقاس يمارس إغوائه ضد الجنس اللطيف ويفرض نظريته ويطبقها على الأرض دون تنازل وهوادة. إغواء يوطده صراخ الفاطميات من الغازي مارد الحقول المحترقة. ولا إستغاثة مهما علت الأصوات.
وثرثرة البقاس تمتد حتى تصل الفساتين الوردية الغضة وتختلط بالضفائر الفاحمة.. ويلتقي الضدان. وتلك حكاية العشق والكراهية.
البقاس ينهي رحلته بأناة على سطح الأرض كأقصر حياة لكائن حي، كأنها سلسلة من اللحظات السعيدة التي لا ينبغي التأخر عن تلبية ندائها. 
تحت البقاس تمور حياة بهية وشَّائِقُة. إنها تجربة تبهج الحواس، ممتعة جذابة. يستطيع أي شخص مصنعجي أن يفهمها على وجهها الصحيح.
وأترك لنفسي فسحة من التفكير والتأمل حينما أمشي راجلًا كالعادة في شوارع بلدتي الطيبة. نزهات طويلة تقطعها بحب ويستحوذ عليك جمال المكان المزدان كلوحة فُسيفِساء تصفي الذهن مما علق به من زخم وكلل وتورمات نفسية.
تستغرق في الحاضر وتنسال عليك البهجة المنبسطة كامتداد رماد البقاس الأسود. بإمكاننا أن نكون سعداء كلما أطلقنا لأنفسنا مساحة في سهل الرماد.
أعرف أن اللوم يوجه إلي بكل بساطة، لإهتمامي بمثل هذه الأشياء التافهة التي يراها البعض عديمة الفائدة للناس وهي نفايات ليس إلا.
أنظر إلى هذا اللوم بفخر وسعادة ولا يعيقني، بل يجعلني في المرة القادمة أن أكتب بكل صفاء عن شيئًا آخر ربما أكتب عن أبو الدرداق. هل تعرفونه أم اختطفه الموت وتقلبات الأيام! وربما عن حمار البنات أو أم قريفة أو سعدية ديك جيراننا الحبيب.
أفضل علاج للقلق، كما قال روزهلفر: "... هو التّحدث عن متاعبك لمن تثق فِيْه! ومن أثق فيهم هم أهلي وعشيرتي وفخري قبيلة المصنع، بالتالي تلك الأشياء الصغيرة؛ مناط شغفي واهتمامي وذكرياتي. فالقلق الذي يصيبنا تفتته مثل هذه الأشياء الصغيرة عندما تعبر خاطرك في الهزيعِ الأخير من الليل نحو دروب الطوايا.
اكتشفت بأن البقاس العاتم في السماء، والذي يشعل العواء في دمائنا، هو مجرد رماد صاعد وهابط بفعل مشيئة صناعة السكر. حكمة الله التي رعتنا بالأمان والتدبر في البطانة الطيبة من فيض الأتبراوي.
كيف يمكن لعود القصب الأخضر الزاهي أن يصدق أن أوراقه ستحترق بكل نضارة ساقه اللدن، وتتناثر كالهباء في سماء الله! نار ضخمة مخبأة بين حوافه وأطرافه تلتهم كل ما خف حتى ثمرته في الأعالى.
البقاس واحد من منتوجات الحقل الزراعي الفائضة كما نظن وبعض الظن أثم، والتي شكلت وجداننا واكتسبته وعيًا مغايرًا نحو طبيعة الأشياء التي تحيط بالناس ولا يشعرون بها. أنه الرماد يعود إلى الأرض ويخصبها كما تشتهي بلا تبرج. سمادُ بمحض الصدفة ودون تكلفة ترهق فاتورة الإنتاج الكلية. وبفعله تتبرج أعواد قصب السكر الخضراء وتتخلص من أوراقها عبر عملية الحريق الكبير، وتصبح سوداء بطعم البلاد؛ كعروسة تتبرج فرحًا يوم عرسها في بوابة المصنع.
هذه الرؤية لها أيضًا دلالات اجتماعية عميقةً جدًا. قد لا تحسها لحظتئذ بل لها مذاق وأنت بين براكين البُعد.
في طفولتنا – سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم- داخل المصنع الكبير كان كل شيء محط إعجابنا ونظرنا وتقديرنا ولا نبرحه البتة مهما كانت الظروف.. عشنا أجمل السنوات الباكرة من العمر بين مجتمع الرعيل الأول الذي أسس مشروع سكر حلفا الجديدة. تتبدل النفوس والأرواح والأجساد وتفنى، وتبقى منارة السكر الخالدة والشامخة والسامقة أبد أنفاس الخليقة على قلب قبيلة واحدة.
دامت بلادنا السكر؛ عزيزة، كريمة، أبية، مخلصة، صبية، ودودة، تطوقنا بالإخلاص, والإعزاز, والإِخاء, والمعزَّة، والوِدّ.
كل عام والإنتاج وفير والناس بخير.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ناصر البهدير
مدير عام سابق
ناصر البهدير


عدد المساهمات : 3674
نقطة : 16164
تاريخ التسجيل : 30/01/2010
العمر : 54
الموقع : البحرين

دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Empty
مُساهمةموضوع: دروب الطوايا.... القصب إن اشتعل! (2)   دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Emptyالأربعاء 14 نوفمبر 2018, 10:04 pm

دروب الطوايا.... القصب إن اشتعل! (2)
ناصر البهدير
أعرف في مثل هذه الأجواء، عندما تكسو البهجة وجوه أهل المصنع، كُلِّ شيءٍ يكون في محله الصحيح، مرتبًا ومهندمًا مثلما تشرق الصباحات على رؤوس أعواد قصب السكر الأخضر.
أنه الظل الطويل الذي يلف عنق البلدة بأكملها حتى خصرها النحيل. يصنعه الكتكو منذ لحظة إنطلاق شرارة النار التي صنعتنا على وسامة القبيلة، ووضعتنا على حدود جغرافيتها متماسكين كحقول قصب السكر المترامية الأميال، والتي تغيب من بينها الممرات حتى الضوء العابث والمغرور يعجز عن اختراقها. كما السراب عاجز عن رؤية ما خلفه من توترات النار التي تأكله في الخفاء.
في اصطفاف متتالٍ، يهبط البقاس إلى الأرض بعد أن خيم عليها بكل حبور. السماء الرمادية تجلب المسرة وتتساوى مع سماء الخريف الخضراء.
تبدد السماء الواسعة الدخان والخطوات المتناثرة، وينفصل الريح المشاكس عن نتف البقاس الكثيرة. تتلاشى سحب الدخان الغازية بسلاحها الفاتر الذي لا يقوى على منازلة الريح.
تتلون السماء بدكنة غامضة، تنبعث من نارٍ متيقظة. تشهق وتفور كغليان الماء في المراجل البخارية الكبرى بجهة المصنع التي تهدر آلاته الأخرى متناغمة مع الأصوات العديدة؛ الضفادع تنشر لحنها عند المساءات متحالفة مع طائر السقد. ولن يستثنى الناموس ألد أعداء قبيلة المصنع في حرب قبائل الدم السائل.
في طريق الدخان والبقاس، تمر اللحظات طليقة ومنشرحة كالنسمة تطوف بلا أمد. مشهد السماء ينمّ عن إلفة تحلَّق في الهواء: أريجًا يزاحم الأنفاس. تتمنى لحظتها على المدى البعيد، محتضنةً فسحة السماء بكل عرضها المستديم. الضباب يخترق القلب وفيوضات الروح، راسمًا لوحة تفيض بالجمال.
ثمة سحب أخرى تلوح في البعيد وفي الغد من الدخان حتى نهاية موسم حصاد قصب السكر.
يعطر الهواء المشبع بالدخان، حناجر الشغيلة وأهل البلد. ثمة ريح تفوح. تتسلل إلى الرئات المنتصبة وتشبعها بالندى. ما أعذب حبيبات الماء وقطراتها البيضاء في الصباح على أوراق القصب وكل أشجارنا الصغيرة والمعمرة. بالطبع! كيف ننسى شجرة ياعم (الحيارى)، وشجرة المرشدات، وشجر البان (البميل نديان)، وعرديبة عمي الصادق الزين، ولالوبة ساكن، وأشجار علي سلك، وغيرهن من سطا الندى على رضابهن. ما أعذب رغوةُ العسل حين تسيل من شفاه الشجر.
الهواء الذي نتنفسه جميعًا كان طيبًا ومتأججًا يفجر الحب في شرايننا.
فاطمة تترقب الأفق بشوقٍ وصبرٍ في عتمة الحريق مثل طول شارع الردمية. بينها وبين أشواقها مسافة أن تنطفئ النار التي أشعلها أحد الشغيلة بسبب وبلا سبب كما يحدث الموت فجأة، وأظنه حالة العرس كذلك.
تعرف أن الوقت اقترب. اقترب كي تلتقي بمشعل النار في القلب الذي يلقي حطب أمنياتها في الشهيق. صبابة تملأ حشاشتها باليقين والضيق. الضدان يشتعلان. الأفقٌ سرمديٌ بلا نهاية كحبال الدخان الطويلة بلا بصيرة ولا هدى بين ضفائرها. تدخلها سلامًا سلامًا وتهبها الحياة.
تتذكر اليوم الذي عاكسها الريح ونزع تنورتها المدرسية أسفل حقيبتها بلا سبب أيضًا. عرتها كما الحقول العارية بفعل أيادي أصحاب الظل الطويل. تعود بذاكرتها إلى خليل وهو ممشوق القامة، أخضر الجبين، كثيف الرماد، أشقر الصدر، واسع الحيلة، خليط من ألوانها البديعة. ألوانها التي اشترتها بخمس قروش فقط من دكان عم قمر الدين. ألوانها التي عدتها المعلمة باب من أبواب الغواية والسفور لطفلة صغيرة لم تفرز بعد ما بين حرارة النشوة وعدالة غياب طعم الحليب من صدرها المتسع لكل أحلام الشغيلة. أبوها وأمها كانوا بالمرصاد يتقدمهم خليلها.
فاطمة تجذب فستانها وتهرب صوب الأرض. تلحظ البقاس بعد أن فقد طريقه وضل وتعثر بالأرض بجوارها. الخصر بالخصر.
تحاول أن تمزج بين ألوانها ولون السماوي الهابط من اتساع رقعة السماء. تلتقي عيونها بقطعة يتيمة كما ولدتها أمها في الحقل. تسمع فيها طقطقة النار وصوت خليل الدافئ. تستعيد صوت جمر أمها عند الفجر وفي المساء حين معياد قهوتهما: أبيها وأمهما.. يتجاذبان الأنس كنثيث المطر ولا عزاء للشامتين تحت الشجرة والمتحلقون أمام دكان علي ود التبخ. يرهقهما موت نار الجمر المتقدة وصبوة حبات البن. يتعبها إشتهاء الحصة.. فطومة تعرف كل ذلك بذكاء يتسع أكثر من طول فستانها القصير القرمزي اللون.. فستانها الذي طرزه خليل الخليل خياط مواجعها وتدفقاتها الصبية.
تشعر بإبرة خليل حين تنغرز بين قماشة قلبها. الإبرة التي تمضي باستقامة نداء الفجر. إبرة فاعلة ونشيطة كمضاد القديل تعيدها إلى البهاء والنضارة.
خليل لم يأت. أرسل مطويته سوداء وملقية في براحات البلد. أرسلها إشارة فورية وعلى الهواء الطلق دون مواربات.
فهمتها فطومة واستوعبتها جيدًا. حملت برفق قطعة البقاس بين راحة قلبها، وأخفتها في رُوحٍ القَلبٍ. ارتوت من السواد؛ لون الحياة.
داعبتها بعينيها العسليتين، الناضجتين، الواسعتين. ابتسمت كالظل. تعدت حالة الاستواء التي احتضنت لفترة من الوقت قلقٍ لا يمكن مداوته إلا بنقاع الرماد.
يأتي صوت النار طازجًا. ومثله صوت فطومة. تتلاعب بخصلاتها ورأسها منكس على الأرض. رجلها اليسرى تمضي يمينًا ويسارًا. تمسح الأرض قبل أن تكتب رسالتها تسبقها قطعة بقاس لولبية. تحتل مزرعة كلماتها الخضراء تميل إلى الوراء قليلًا لتتزود من شجاعتها. يقتلها الحياء. تتراجع خطوتان. تتقدم خطوة. وتعلن حروفها بلسانها.
قبل أن تقول أية كلمة يتساقط البقاس بكثافة ويحول بينها وخليلها.
تعلنها داوية: الطريق طويل يا فاطمة كما طول السرابة لعامل حصاد يقتفي أثر ظله الضائع بين الحقول.
توحدت مع غريزتها. تتسرب رويدًا رويدًا إلى جسدها. تتماثل للحلول وإن شئت الاتحاد بل الوجد ما كان يربطهما بحبل متين من أوراق القصب المنسوجة بعناية شادة أركان القبيلة. 
في فجوة البقاس كان الحب ينمو وتعلو مراقيه بعيدًا عن عيون دروب الطوايا.. هنا هناك تراقبها الأعين بشرر. كهر يعبر إلى النفوق. يقاوم لآخر لحظة بعينيه الحمراوين.
لم تحظ بوقت لكي تختاره وتضمه للفؤاد منذ عبر رائحته الأرجوانية. بين فجاج الظلمة احتل شغاف قلبها كما زخات عطره الفالت. الوجه الرمادي المصرور إلى رائحة قهوة ود العاقب في الصباح الباكر من توقيت حضور عمال الحقل الزراعي. 
أحبته بصدق وتبادلت معه كل شيء في السر بينها وبين نفسها فقط.
هنالك الشمس لم تغرب بعد. كانت فوق سطح النار وشعاع أصيلها المنطوي على الوداع. تدري بأن خليل يلاحق الحصاد وحركة الشغيلة والعمال والآليات والأعطال المتكررة ورصد موجات راديو الاتصال الفورية المفتوحة على أثيرها الخلوي.
عيناها يقظة تتحركان كشرر النار، حمراوان مثل كتل اللهب التي تملأ سماء المصنع. تركز بحيوية وتفانٍ داخل القطعة وهي مقبوضة بين أناملها المتعرقة. أمامها الطريق أقصر مما تتصور. تظن أنه سيمر خُلسة بين مسارات الندى العالق في تجاويف الروح المتعلقة بتؤامها. بضعة دقائق أو سويعات لا أكثر لترشف ريقها المتصاعد صوب لهاة الوقت المنقضي من رحلة لم تبدأ بعد.
الو كنترول.. الو كنترول..... الجرار 1976 متعطل في طريق الترلات عند نقطة كبري فاطمة حسين.. تسرح بسعيتها السماوية.. وما أعظم الحِمل حين يتكثف في رحم الأمنيات!
ويرن صدى المكالمة بين صيوان أذنها اليسرى ويرتفع كصوت الأعاصير حين تحاصرها النار.. نار تأجج وتضطرم بين أضلعها. تراقب أفقها وكل الأثير وعصافير المساء عله يأت على مهلٍ حين غرَّة متسربلًا بالزيت والعرق والتراب ورائحة الحقل وزهور التبر أوان استهلال القمر.
ونواصل.... 




[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ناصر البهدير
مدير عام سابق
ناصر البهدير


عدد المساهمات : 3674
نقطة : 16164
تاريخ التسجيل : 30/01/2010
العمر : 54
الموقع : البحرين

دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Empty
مُساهمةموضوع: دروب الطوايا.. القصب إن اشتعل! (3)   دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Emptyالأحد 18 نوفمبر 2018, 5:24 pm

[rtl]دروب الطوايا.. القصب إن اشتعل! (3)
ناصر البهدير
تشد فاطمة خيط الأمل بين علبتين حمراوين من صلصة سعيد. النقطة الأولى تشدها من وسط قلبها على مدار الريح وأفلاكه. والثانية تركتها عن عمد إلى أذنها اليسرى تمارس شغف التراسل الأثيري.
الخيط رفيع بحيث لا ينطوي على نتوءات وعقد. مفتول على نول صبرها واشتهاءها الباذخ إلى ذاك الصوت الهارب صوب الحقول.
تناديه في اليوم ألف مرة عبر ثقب البال والباب والطريق وطرحتها البيضاء اللامعة التي تتوسدها أوان ترقب ظهوره. كأنها تنوَّسٌ وتجوَّسٌ وتحَّوسٌ وتلوَّسٌ وتغوَّسٌ بين مواد الكيمياء في معمل العلوم.
هنالك نسج الغيثُ قصب السكر. أَنبتهُ حتَّى التفَّ خاتمًا على البنصر كنُواسُ العنكبُوتِ. على مِنوالِه نسجت الرِّيحُ الرِّمال. تركت خُدُودًا على مجرى الجدول الذي يجلس على حافته ليقرأ من ذاكرته حضور التفلتات وبعض القصائد التي كتبها طلسما وتميمة لعشقه السراب.
بينما فاطمة غزلت وحاكت طيلسانٌها من تأطير خوفها الذي يصاحبها كلما اقترب صوت الجرار.. كلما سمعت نداءات راديو الحصاد في الطرقات التي تمر بها... كلما ارتفعت مسافة شهيق بين نقطتي هاتفها الخيطي المتفلت.
جربت هذه المرة أن تعلو سطح البيت. تسلقت برفق خيوط العنكبوت في ظل غياب والدها. رسمت مسارها جيدًا دون انزالق. أجرت المكالمة على طريقتها العفوية في الهواء الطلق بعيدًا عن أعين المتلصصين. تلصص زهرة النرجس الطفولي الدوافع، وصباح الخير الذي يزاحمها ويراودها عن نفسه.
آلاف الذبذبات تعبر خلايا الجسد. حفيف ينافس حشرجاتها المكتومة. ضجرها وقلبها المبتل بطهارة العشق.
الخط تشغله الطيور المهاجرة.. طائر القانقرد، الرهو. أيضًا البلوم سيد شباب العصافير بين موائد أفنان البان، عصافير الجنة المزركشة بأروع ما يكون من قماشة ظن الخير والقرمزي النبيل. ود أبرق وعشوشة... هيهات هيهات. تتذكر خليل وعنف الاشتياق يقتلها من الوريد إلى الوريد. تسكب قطرة واحدة على طرف كراستها.. تدلق الأحمر. ينهمر سيادي الطلعة في مقام قلم التصحيح. يصوب ما يشتهي من جينات فواكه الوله والغرام.
ومن يرسب في دفاتر فطومة!
دوائر الخط تشغلها الطيور بأرجلها المتشعبة، وهي تحيط بالأغصان وأسلاك أعمدة النور حتى منارة مئذنة مسجد السوق. تداعب بأجنحتها فاطمة وصاحباتها اللائي يغنين للصيد الساكن الردمية. هنَّ في دوائر الحظ المغلقة، وفاطمة تترجل عن صهوة الشارع لتنزوي وتستقبل النداء الكاذب. الصيد يفلت وتأخذه الأيام. فاطمة تهيم في أوديتها. الحيرة تلفها كصُفَّارة الشيطان: إنْ كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارًا.
وقد مزق الخط، أوتار قلبها. لم ينقذها إلى بر صدى النار التي تتصاعد في الأنحاء البعيدة. نارًا تلهمها المسير وتفكيك شيفرة الخط الخيطي الذي لا يجيب كلما رنَّ القلب وهفا إلى الحبيب.
نذير شؤم يتجول في الأرجاء. يبقى على قيد الحياة بتواتر هطول الدخان. التمست له العذر ربما الدخان يشغله عن الصعود إلى منصة المحادثات الطارئة، مثل هذه التي تستعصى رغم طلاقة الطقس.
هداها قلبها إلى حيلة أكثر من ذكية. أرسلت رسالة إلى السماء، واضحة، بخط أنيق. خط يماثل خط نبيل الزين. الخط الذي تعلمه من أعواد العرديبة. والعود الأخضر يصنع النار ويبدع الثمار. على لحاء الشجرة كتب الزول الزين: معلقة ورشتي أبو زيد وجوبا، ومشتل المطار وحزام البان. على اللحاء الآخر المقابل لديوان البيت العتيق كتب بأحرف متناهية الدقة، لا ترى بالعين المجردة: أحب فطومة. وأسفل الغزل كتب بخط منمق وكبير.. كبير للغاية: مستحيل النصر على الأزرق. أوو أوو تنقا تنقا.
رسمت فاطمة بذات ملامح الخط السكري النبيلي أحرف رسالتها وأودعتها جب الدخان المسافر جنوبًا عسى أن تصيده في يقظة القيلولة التي تلازمه، وهو منشبًا أظافره في دفاتر الحضور.
ترحل أنفاسها مع الرِّيحُ، ترابط في تلافيف المطبات الهوائية. ريشة في الهواء. وتدفع الرِّيحُ باللهب والدخان والبقاس في ثلاثية. موجة تدفع موجة. يتدفق وميض همسها المسترخي، موسيقيًا عذبًا يسري بين حبال صوتها المعلقة على رمانة ميزان الوقت.
ساعة كاملة من الوقت تستحضر وتمتص فيها الأصوات المحبوسة في تجاويف البعيد.
خليل لا يستجيب، ولو برنة. رنة تعدل كفة الخيط المفرود بين أصابعها المتبرجة بصهيل الاكسجين. العنصر الذي لا يفسد حتى وإن مرَّ بحواف خِوان الباشندي.
كان السكر سكرًا حين يذوب، يذوب بين حلق فاطمة. تتذوقه بلسانها البمبي. معه كل شيءٌ طاعم وسخي.
اتذكّر يوم أن كان عمري بمستوى الصبا وجنونه. رأيتها وسط بيض الحمائم تردد سجعها الخاص والمشترك مع المجموعة. حمائم بيضاء كاملة الدسم في رقص رتيب وموسيقى حالمة وأصوات رقيقة. تتميز بوجهها البلوري المشرق. وجنة ترقد على الخد. أنامل تطول عيدان قصب السكر اللادنة. عيون كالقمر يصنع هالته شرق المصنع ويستمد نوره من أسنانها البيضاء. قوامها بانة ترقد عند مدخل باحة بيت هاشم بوابة الله. مستقيمٌ كرسول خيطها الممتنع. هل كان الخليل مرابضًا بساحة الروضة الشرقية ويتوق لحضور احتفالات عيد الأم في مارس من العام 1983م! ومنعه عثمان الدباب من الدخول!
نسمة مُتريِّثة تتلاعب بوجهها. باردة تمر كانسراب دودة الصارقيل في الطين. تتدفق ببطء كصعود ماء الترعة نحو الشمال الجغرافي حيث تختفي وتتفرق أيدي سبأ نحو المجهول. والمجهول كان أبو لمبة. ومحطة السكة الحديد البعيدة جدًا لأطفال الروضتين الشرقية والغربية.
تخاف أن يخذلها الخيط ويوهن قلبها. ما زالت في عين العاصفة.
فطنت إلى أنها لا تكلم إلا نفسها. تكورت مع لفات الخيط والتفتت من جهة الفراغ في حركة متدافعة. اكتشفت أن أطراف الخيط مركزين في مركز واحد من تقنية نقل الصدى. سرعان ما استقبلتها الأرض وأبيها العائد لتوه من زحام السوق.
علته الدهشة واستدارت واستطالت. فاطمة ماذا دهاك! حتى تكوني في رأس البيت! الميزاب كان دافعك أم ماذا؟
انتصب صمتًا بعمرها. وقالت بعد لأي ومشقَّة: أبي.. يا أبي رغبت في أن أحادث العالم وما خلف بيوت المحطة وبيوت الري وكوشة حريقة. ما بعد كرري والكاو وجبل مرة وجونقلي والقاش وجبل السكر. لأعرف سر الحريق الذي يشتعل في الأخضر الريان.
عَمَّاذَا، تبحثين يا فاطمة! ما يفصلنا عن العالم الآخر ربما حمار قمر الدين وترلة الخضار! هم ضفة المصنع الأخرى، ونحن ضفة تتماسك بطوب البقاس والأعشاب، ومرايا تصنع النار كما أصابع خليل الخشنة وقت أن يتوسدها فحل عود ثقاب حر طليق يشتهي التهام حقل قصب السكر. ومرايا الجهل كانت تحرق البيوت بالنميمة والخوف والخبل.
كلنا جينا متسللين واحد واحد، لنروض حوش الطبيعة وننتصر لحبيبات السكر.
ليس أمس مثل اليوم، واليوم مثل أمس حين تقاطرنا واقتربنا من الحقل. سترنا عورته وعورتنا وطفقنا بين أوراق القصب نصنع مجدنا وحدود قبيلتنا على الأرض. كأننا خلقنا من جديد من رحم البطانة بلا تاريخ وعقلنا صوب الحاضر نستشرف المستقبل.
في البدء كانت بلدة بسيطة متباعدة المساحات والفراغات. كل يوم يمر وآخر، تزداد الحركة التي تملؤها طقطقة تضج بالحياة.. سقطنا كنقطة الماء على الأرض.. الحيامن تتوغل في عميق التراب. ثم وعي وشغيلة وانتاج.
أي الخيوط أنت تصنعيها الآن لرتق فتق مسافات أقصر من أنفاسنا! تجعلنا نصافح ظلنا ونمتطي خيالنا الطويل، ونودع البعيد احتفاءً بالذهب الأخضر.
البقاس يودع الحقل ويفوح عطرًا ورزقًا ويهبط رمادًا.
فاطمة تزرع فتائل خيط الأمل في قلبها وئيدًا. مكالمتها الخاصة بين دائرتين. أختها أحد النقطتين. تصل الأصوات واضحة يسبقها هسيس الرِّيحُ المراوغ. تكتمل الدائرة بالنداء الأخير. ولا أمدٌ سوى صوتيهما ينسال بين أرجاء رحيق الزهور. تنفض يدها. تدير معركتها الأخيرة مع راديو البيت الصغير الذي يلتقط أنين وتأوهات العشاق المبثوثة داخل نصوص البرقيات الرسمية.
يوغل المساء حزينًا في صريم الليل. انضمت فطومة إلى كتاب الأيام. تشغل نفسها بأمر طه حسين الكفيف. تهمل الصفحات وتهاجر بعينيها. جذوة النار تطوي ضلوعها على حبيب لطيف. تهرب إلى أقبية طلاسم أسئلتها. وتبحث عن أجابة. تستعين بخطوط الكنتور المتعرجة لتتعقب خطواته في براري الروح المنهكة.
أسدلت طيلسانٌها الناصع البياض على وجهها الصبي، وغرقت في يم الصَّحو والسَّهد، تترقب الأفق، ونُواسُ الدُّخانِ الذي تعاشره في غرفتها الطينية.
ونواصل...[/rtl]
 
[rtl] [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][/rtl]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ناصر البهدير
مدير عام سابق
ناصر البهدير


عدد المساهمات : 3674
نقطة : 16164
تاريخ التسجيل : 30/01/2010
العمر : 54
الموقع : البحرين

دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Empty
مُساهمةموضوع: دروب الطوايا.. القصب إن اشتعل! (4)   دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Emptyالأربعاء 28 نوفمبر 2018, 10:20 pm

دروب الطوايا.. القصب إن اشتعل! (4)
في ظهيرة قائظة، شقت طريقها عبر الأزقة حتى التصقت أرجلها بجوف (شارع الأربعين).. خبتُ الناس جميعًا. ثلاث دقائق من عمر أنفاسها اللاهثة، قطعتها متوارية داخل طيلسانُها. لم تهرول. مشت الهُوينا تحت سماء يظللها قوس الضباب صاحب الألوان الباهتة، والتي تزداد قوتها عند الحواف. غاب قوس قزح لأسباب جغرافية. السراب سيد المشهد.
حددت مسارها وفق خريطة تنورها الملتهب. رسمت خطوط مقياس الرسم بدقة كما تعلمتها من خريطة الكنز. وتتالت الخرائط.. من الجفيل مرورًا إلى ريرة... وليس إنتهاءً بأتبره.
في طريقها لإقتفاء أثر خليل تتعثر برماد الشوارع الذي يحيط بأركان البيوت لصد الوحش الخارج نهارًا لأكل الأطفال وتمزيقهم. يختلط حذائها بالرماد ويشتبك؛ لونًا لا ترفضه. تستحسن حضوره في غياب الأطفال بدلًا عن صعود الأزقة.
لا أحد يتتبع خطاها ويبلغ أمها أو أخيها الذي يرصد حركتها أينما اتجهت بوصلتها. الجغرفية عشقها الأزلي. تتخفي كالحرباء بين الأشجار والنباتات. تنحني للأسفل وتحمل ذرات من الرماد وتخفيها تحت طيلسانُها. ثمّة أشياء هشة يضيع ذكرها في زحام الحياة ورتابتها. على حافة الرماد الخرائط ترابية، تحيط به في شكل أميبي لا يصلح لأن تختبره على جهاز المعمل ولا داخل نطاق الرسم الهندسي.
من يهيل الرماد ينتظر مفعوله بعد نثره على حواف البيوت التي تريد أن ترتاح في قيلولتها من عبث الصبيان أوان الظهيرة. الرماد لا يعرف الحياد منذ أن ولد في حقل الجمر. تحت منقد أم فطومة أو بقاس الحريق المنطلق من الحقل أو بقاس الدخان المتصاعد من فوهة مداخن المصنع الكبرى أو بقاس القيزانات المتولد من المراجل البخارية بنوعيه أو بقاس الطين المنسلخ من عصير القصب في مراحله الأولى. 
الرماد متاهة. أنا وفطومة نشترك في لغزه ونتوه. تهنا من زقاق إلى آخر، ومن شارع لآخر، ومن بيت إلى بيت، ومن حقل إلى حقل، إلا النار التي لم تولد رمادها بعد بين جوانح قلبها.
تقرأ الرماد من زوايا عدة. بينها حتمًا زاوية الخليل الضيقة والحادة من منظور إحداثيات الحقل المشبع بظنون الالتباس والدخان النزق. تقرأ وتقرأ سيرته إذا القصب اشتعل. وإذا الكتكو انغمسوا في برك العرق، وغاصوا حتى الأعناق الطويلة. . وتقرأ جيدًا تحضيرات الحقل بانتباه عند نظافة وحرق الحشائش الضارة على رأسها: العنكوج. وإذا الدخان علا وغمر حى الألمان وجنوب مبنى المصنع. وإذا علوبة احترق في طين البقاس المهمل في الشريط الضيق الواقع بين الترعة العفنة ومدرسة (أ) الإبتدائية مرورًا بحزام البان حتى ناصيته حين يلتقي بناحية بيوت الهدندوة، ظانًا أنه بلا نار هكذا يسلك الطرقات؛ درويشًا وطيبًا وبسيطًا وكريمًا لا يزال يجوب البحار ينثر عبقه العذب كأبيه الشهم عبد الله محمد خير. احترقت رجله ونهشت النار اللحم كنهش الأفعى وما بكى علي.... علي علوبة.. دقه النوبة.. جرينا وراها... لقينا...... وتلك قصة تنسينا مصاعب الدروس وطابور الصباح. لم يتضجر علوبة من لهيب النار الحارق.
تسمع أصوات بنات حي الألمان وضجرهن من تفلت البقاس وتعديه الحدود. تناوشهن وتجادلهن وتعابثهن وتضاحكهن وتهاذَّرهن في حوش المدرسة حين تلتقيهم: يعجبني الذي يثير أعصابكن ويهدها.. كل شيء بثمنه. 
تتجه فاطمة نحو الضلع الذي يضم ستونة بائعة القدقدو. تشتري بعملتها المعدنية من جنس ريال، وتتباطأ في إخراج النقود. بعينيها تراوغ وتدس أنفها وأذنها حتى تجد نفسها متورطة في لسانها: متى يأتي عمال الزراعة من نوبتهم؟
ستونة تقرأ جمر أفكارها الملتهب ورمادها المتطاير. تباغتها: من تريدين؟ ترفع حاجب الدهشة وقرنا استشعار الحاجة للإجابة، وتقول: من أقصده، عريض المنكبين، أخضر اللون، رمادي العيون، شعره مثل سنابل قصب السكر حتى في لونها القمحي الفاتح، كفى أم أزيد!
مرَّرت ستونة عينيها لمامّا على كل تفاصيل فطومة. وما انتظرت كثيرًا: يأتون بحلول العشِيَّة.
أخرجت فطومة مع النقود، وردة نرجس بيضاء تميل إلى اللون الرمادي. واندفعت تحت ستونة، واقتربت من أذنها اليسرى، وقالت لها: امنحيها خليل.
من أقول له صاحبة الوردة؟
سيعرف من رائحتها وعبقها حين تصله.
طوت نفسها وغادرت متجهة إلى أعلى الشارع ناحية كمبو مجان في نزهة تتابع درب الحريق ومسير النحل الأثيري. تحلق بنشوة الزهرة التي رحلت إلى الخليل عبر بريد الهواء الطلق الذي يحل فيه كل يوم لأكثر من مرة.
تداهمها نوبة عشق عارمة تضعها في مواجهة تيار الريح الصاعد المتطفل. رعشة تتخلل الخطوات وتربكها وترجها رجًا.
بدا الطقس حارًا وخانقًا. وتبدل إلى عاصفة من السموم. تلاه انعدام الأكسجين، ومن ثم غبار عالق غطى سماء المدينة وفي جوفه اختفي كل شيء من الوجود، وبات باهتًا ومشوهًا.
تسكعت فاطمة لبعض الوقت. في الصيف يعيش الناس أيامًا صعبة تتفاوت فيها درجات الحرارة التي تتيح للزواحف بالحراك الكثيف دون مشقة. تجولت بما فيه الكفاية كأنها تطارد خيط دخان منزلق وغير جدي.
تترنح بين أنسجة شوارع ذاكرتها المهترئة. تحاول أن تقبض على الكثير من الوقت. يمر الزمن ببطء ويصعب من مهمتها جهرًا وسرًا. في الجهر تتسول وتتوسل بالشوارع التي احتوتها في اليقظة. وفي السر تنشد خلاصها وانعتاقها من عتمة الليل وزغاريد طائر السقد.
كل لحظة تنسخ أخرى. نفس الصفات الوراثية والبصمة التي لا تتكرر. الشارع لا يضطرب، يسكنه المزيج من الأشياء المبعثرة والمتداعية.
عمي الأزيرق يتمترس خلف كهولته. يتجلد بالأعشاب التي تحيط بداره، وإن تسورها رجلًا بالغ المنعةُ والعتاد. يطلق صيحته المعهودة كلما لمح أحد ما أدخل رأسه من أعلى ونادى على رفيقته: ماذا يريد هذا المعتوه الأبلهُ ابن العاهرة؟  أعرف ماذا يريد أن يفعل بسور بيتي. يمهله المرور والغيظ يقتله. أفكاره تتسكع وتتسع بامتداد السور العشبي الهش المشتول على رقعة نهايات شارع الأربعين.
فطومة تصطدم بقبعته الرمادية وتنشله من رعافه الحامي وبالمقابل ينقذها من ضياعها ويرتب لها أمر العودة إلى رشدها وطريقها نحو شارع الردمية.
هدنة مؤقتة بعد حادث الاصطدام المفاجئ. حقيقة لا أحد يريد لحرب الشوارع أن تنتهي. الكل يشهر سلاحه إلا العجزة والأبرياء، أمثال، الأزيرق وفطومة وسُردبة، وحصان دامر.
حتى أنا عاجز عن اسكات وجعي وإيقاف نزيفي. لا يتجلط ولا يتجمد ولا يتخثر الدم. أرقص مذبوحًا حد الموت بين طيات البقاس الخليعة. اساوم فطومة على الرهان ولا أخسر سوى تشردي وموتي. اساومها على حرب جديدة في رقعة البيوت المصلوبة بين شارعي الردمية والأربعين. فطومة لا تساوم سوى نفسها؛ فالحرب الشاملة أم التهدئة الطويلة لا تخيفها في شيء.
صراعها يستعر داخلها كالحمم، تقذف بعيدًا. حضور الغائب يشغل بالها. لا يزال خليل يحتل قلبها. لا يزال يزعجها. كابوس خلف كابوس يمضي في خيوط الأعصاب ويخرمها ويهزَّها ويهيَّجها. يكاد أن يخترق الحبل الشَّوْكي. 
دخانٌ كثيفٌ يغلق مسالك الحنايا والطوايا. يوصد الدروب بلا عمد، وتنسحب إلى الغياب. يخرق حجب النفس الحائرة. وحش القلق يأكل روحها وينهشها بأنيابه الحادة. فتلجأ إلى وجوه الشارع المتعبة. تقلبها بين عينيها، ومعها صورة خليل عابرًا الشوارع المتقاطعة بملابس العمل. 
تسافر مع صديقتها نورة في حوار يدمي قلب شارع السوق. تضع يدها على كتف نورة، وتقول: أرايته هذا الوسيم الذي يرهق وينتف ويعطل أعصابي. نورة لا تمانع كما قلبها في أن تقول الحقيقة: انت محظوظة أن التفت إليك ومنحك بعض وقته رغم مشغولياته التي لا تنقضي. نورة المراهقة الناعسة تضحك حتى تظن أنها ستغلق على نفسها الطريق: أنار قصبًا شهيةً تقتل دماغك وتصيبه بالسكتة! وتصيح فطومة من أسفل حنجرتها: يا نورة.. أتظنينه هينًا ولينًا.. لكنه يقطع الحشا ويقطع الطريق مثل عود قصب سكر ناضر ولدن.
اختفت وراء حنجرتها وانزوت بعد أن شعرت بأن ثرثرتها مع نفسها ذهبت بعيدًا مع الريح. اللحظات تمر بطيئة تدغدغ خاصرة شارع الأربعين وريش القصب الأخضر. النهار هادئ. الشارع في غفوته، يسكنه السراب من عدة جهات، وبعض العابرين بين نثيث المشروبات الروحية. يلمع السراب كالضوء في أسفل جهة الشارع الذي ينتهي إلى ميدان الأهلي والكنيسة. تلك الفسحة الكبيرة التي يعبرها الخليل يوميًا لأكثر من مرة بمفرده أو مع العاملين في الحصاد. المكان الذي يعبره إلى قهوة ود العاقب ليرتشف فناجينه. وعند كل رشفة حكاية وأمل وحياة وزراعة جديدة وحصاد وكثيرًا من صورتها. 
المصنعجي يحب أن يرشف قهوته عند الصباحات الباكرة قبل شروق الشمس وسطوتها. في كل رشفة بركة وخير وانتاج وفير. القهوة زاد الحياة في نهارات العمل المرهقة والنيران كما أنها أنس لطيف وحميم في المساءات الندية بالنسائم.
يشق وجه الصباح بنشاط وهمة، ملتقطًا أنفاس الندى وروح الألق والحيوية التي تملأ رئيته. ليذهب إلى الحقل بروح العمل ويرعي علاقته بها. التي تعلمها من أقرانه ضمن الفريق الواحد الذي سار منذ عهد التأسيس الأول للمشروع. أنفاسٌ واحدةٌ متشابكةٌ تستنبط قانونها الأبدي من المتابعة والمراقبة لنبتة قصب السكر.
يتذكر خليل يوم أن تحركوا من القهوة في أول يوم له في العمل وغادروا مع شروق الشمس، والتحموا مع الحقول. غرسوا أعواد القصب القصيرة، المقطعة إلى عُقل صغيرة، بكل حب بين جنبات الأرض في بطن السرابة. نمت ونمت أفراحهم وآمالهم الطويلة حتى صنعوا السكر في غفلة من الزمن. ونمت القبيلة بين أكتاف الحقول الخضراء.
يتذكر تنقله من حقل الزراعة إلى حقل الحصاد الممتلئ بالكتكو والشغيلة من كل صنف، والشوارع المدفونة بالغبار. هنا وهناك وهنالك سيان نوبة العمل عنده طالما يعبأ السكر بأسرع ما يكون ويسكن المخازن. ويأتي حافز الانتاج.
يختلي بالحقل والحقل يختلي به في رقعة شفيفة وأليفة لم تقطعها الأيام. بل تزيدها متانة. متانة الشغف الذي يتوطن قاع القلب.
يتذكر العقرب التي تحرشت به وحقنته بالسم في مؤخرته. وأردفها القديل بحقنتين من المصل حتى تعافئ. حين يتذكر ذلك تطوف باحلامه فطومة. تلسعه رعشة مباغتة وتعتقله في حيز احلامه وأفق يمتد أمامه كبحيرة الأتبراوي.
يتربص بالأمل، والأمل ينمو بين نخاع وردة النرجس. يزحف برفق نحو السبلات والبتلات. رحيقٌ نذر نفسه لملاقاة الخليل. وحدها الوردة تناديه في لجة العتمة التي انتشرت على الشارع المتلهف لأضواء الفوانيس.
ما ضرّ الحقل لو أحبه العاشق الخليل! وما ضر فاطمة إذا قبل نحرها واشتم عطرها على سنة الكون، وأختلى بها بين أوراق قصب السكر؛ عروسًا تفوح بالزينة والأدب والجمال! ما أزهى الفستان الأخضر الريان!
العاشق والمعشوقة في ثوب الدخان يلتفان. الدخان يسد الدرب وتتوه المعشوقة باحثة عن اتجاه بدلا عن صدر الخليل المُثخِن بصهد تباريحُ الشَّوق والهوى. "الخروج من متاهة الشارع هو الاتجاه". تسأل نفسها. يهبّ الدخان من كل اتجاه ويضيع الطريق. خيوط الدخان تلدغها وتحيط بعينيها وتمنعها المسير. تتراجع، تتخبط. هرب الضوء منثالًا في الغياب. سلسلة من الظلمة تحيط بها. بدأت تهرول والشارع يزعجه الطنين.
تحت وطأة الفقد، ألف تلة من الأدخنة. انهارت باكية تجر ساقيها، وتفلتهما للريح الأرعن. تغمغم تحت ثقل الانهيار الفظيع والفراغ العريض الذي وجدت نفسها فيه محاصرة بلا أمل في العثور على الحبيب. بإمكانها أن تمنع نفسها من البكاء.
الشمس تكاد أن تغرب، طقطقة النار تعيد فيها ضرام العشق. منظر الغروب نفسه يشعل روحها بالأمل، طفلًا تلتقيه على الشارع، ترفعه وتقبله على نحره، فقط شيئَا واحدًا لا تجده. أن تتمشى مع الخليل في هذا الشارع الجميل. كأن جون أنتوني أخبرها بقاعدة المتع الصغيرة في الحياة أثناء البحث عن المتع الكبيرة. تذوق المتع الصغيرة في الحياة؛ طقطقة النار، غروب الشمس، حضن طفل، تمشية مع أحد مع الأحبة، قبلة خلف الأذن. "ليس المهم هو المتع الكبيرة؛ ولكن المهم هو الاستمتاع الكبير بالمتع الصغيرة". كم قال جين ويبستر.
غمرها الدخان المتصاعد وسيل البقاس المتوالي. تنفست بصعوبة. توهج اللهب ومن ثم خفت وانطفئ في الحقل إلى أن ماتت النار وتلاشت سحب البقاس. وبقيت نارها حية تضطرم في قلبها. لها شهيق وزفير. تتأجج بقوة وتلفظ حممها في البعيد. نوبات تشق أضلعها وجسدها النحيف. على أعتاب الباب ندَّ جبينها عن عرِق كثيف ولطيف بلل كل أفكارها. سرب الدَّمعُ على الخدود. رمت بصرها خلف ضفائرها ودخلت البيت محملة بنداء السَّربُ: المسلَك في خُفية.


نواصل...


[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ناصر البهدير
مدير عام سابق
ناصر البهدير


عدد المساهمات : 3674
نقطة : 16164
تاريخ التسجيل : 30/01/2010
العمر : 54
الموقع : البحرين

دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Empty
مُساهمةموضوع: رد: دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!    دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!  Emptyالأربعاء 12 ديسمبر 2018, 1:54 pm

[rtl]دروب الطوايا.. القصب إن اشتعل! (5)
ناصر البهدير
عزيزتي الغالية... فاطمة بابكر
أكتب إليك أوان هجعة بعد الظهر، من حولي جيوش النمل ذهابًا وإيابًا في رحلة عمل بدون توقف على جدار الغرفة الخارجي. تحمل حبات الذرة الرفيعة وبعض قمح مهرود. تنقله بدأب ومحبة كما تنوء الريح بخالص ثقل محبتي لك. بيني وبينك البونٌ شاسِعٌ. أراها مسافة طويلة بين هنا وسُّرَّةُ روحي. 
عدتُ لتوي من الغيط مثقلًا بالأحباط والتعب من جراء بعض القضايا العالقة والتسويف الذي يحدث حيالها من قبل الإدارة. لكن مع ذلك أحضرت قلمي ونشط قلبي. بدأت أكتب بعد أن اجتاحني شعورًا غريبًا. على كل حال، أعتذر عن اقحامك في ما يخص العمل.
كلي أمل. ما يهمني في الحاضر أن تصل رسالتي إليك عبر الحمام الزاجل بأسرع ما يكون. 
هسيس رغبة تجتاحني بقوة في أن أهدي إليك كل أزهار الدنيا. ومع ذلك أعلم بأنها غير كافية للغاية لتعبر لك عن مدى تقديري واحترامي وحبي الدفين بين خلجات نفسي.
في البدء يطيب لي أن أقول لك كل الشكر والتقدير والمحبة على هديتك القيمة التي أزاحت عن كاهلي وهن وعبء سنوات عشتها في سهول الرمل. حاولت أن أطوف بخاطري وأجلب لك منها وردة تضاهي عبقك الفائح؛ حين ينسى الإنسان نفسه ويغامر من أجل المحبة. 
شيءٌ أكثر من رائع وأنتِ تطوفين بأركان البيوت والشوارع لتمنحيني أملًا زاهيًا يُضوع ما بين رسالتك التي أعتز بها وأضعها قلادة على صدري. لن أنس ذلك التعبير الراقي الذي خذل كل توقعاتي. مع أن الوردة فقدت الآن نضارتها إلا أنها حملت قلب طفل. وستبقى رهين القلب أبد ما عشت وتنفست.
أيقن قلبي لحظتها بأنه ليس وحيدًا في هذه المدينة الصغيرة بعد اليوم. غمرني ابتهاج لم أعهده من قبل، ومسرة لا مثيل لها. شعرت بارتقاء إنسانيتي رغم الضنك الذي نمر به والظروف المهينة القاسية، ورهق العمل المتواصل بدون أجر مستحق يوازي الجهد المبذول، وغيرها من الصعوبات التي تكاد أن تسحقنا حد الموت.
يؤسفني أن ابلغك بأن الوردة كانت تصارع زفرات الموت حتى لفظت أنفاسها بين يدي.. رغوة عسلية طفحت وسالت بين روحها. أوجعني ذلك الاستشهاد. وأنا أعانق قلبها بكل حب وصدق كأني أفتقدك للأبد.
بحق السماء هذه أول وردة تصلني من عزيز وانا ابن بيئة ريفية جل سكناها حول وادي برلي بأقليم دارفور أو شماله وجنوبه. أرى الأزهار باسقة غير مكترثين بها ولا هي تمنحنا بعض عبقها في مطلق الأحوال. فأنوفنا كانت مشغولة بأشياء العوالم الصغيرة التي تحيط بنا. نولي معظم أمرنا للقُطعان. تشغلنا هموم الحياة اليومية ورحلة كسب العيش والبحث عن الماء والمرعى الأخضر.
لذا احببتك كما عشقت وردتك التي وسدتها الآن بعض أوراق بيضاء ولففتها جيدًا ووضعتها داخل برطمانية كنت أشرب بها الشاي. لا تقلقي! سأشتري مرة أخرة مربى من دكان عمي قمر الدين، وأظفر ببرطمانية أخرى أتقي بها زَّمهرير الشتاء. 
تركت وردة النرجس في جوار الفانوس الذي أفرغته من الشريط الأبيض والجاز. علقته على جدار غرفتي ريثما تصحو الوردة من جديد. أضحى الفانوس مبتسمًا بقربه الشديد من تنفس الوردة. خشيت عليها من دخان الفانوس الذي سيغرقها في موجات الكربون القاتلة.
إنه السِّناجُ الذي تعرفينه. نخوض ضده معركة كبرى في الحقل والمصنع، الكل يشتكي ويضج من غلوائه وفتنته وشهوته المارقة رغم أن القول صامد: لا بُدَّ للسِّراج من السِّناجِ. فدقائق الكربون ترعي حقولنا وتخصبها في ذات الوقت، ولكن في بيوتنا تصبغ الحائط، وفي المصنع تدخل رئات الشغيلة بلا أذن وتدمرها بمرور الوقت.
أكتب لك وبيني وبين مواعيد نوبة السهرة ساعة من الوقت. أرنو إلى ساعتي رومر السويسرية، في كل لحظة حتى لا تفوتني مواعيد العربة التي تقلنا إلى الحقل. هذه الأيام أعمل في عمليات النظافة. الأنكوج يرعبنا بثقله الباين وتمترسه داخل الأرض. يستقوى بكل حيله حتى لا يموت ويفارق الأرض الرطبة. إنها الحياة وصراع الكائنات الحية.
أمس حاصرتنا مجموعة من الثعابين، في زحفها المسائي المعتاد؛ فأفلتنا منها بقدرة الله تعالى. هرعنا بأسرع ما يكون بعيدًا عنها. ثعابين متنوعة الأحجام. يبلغ أطولها ما يزيد عن الثلاثة أمتار وأصغرها يقترب من المتر. تركض مسرعة كأنها في سباق قدرة. تابعنا عدوها كما كنا حين نشترك في سباقات المضمار الطويلة أوان المدرسة الإبتدائية التي تتبع المرحال أينما حلَّ.
أضحى بيتي عابقًا بأريج العطر. أينما وضعت رجلي استنشق رائحتك العذبة التي علقت بالمكان ولن تغادره للأبد. كأنها كسيت والتصقت بالجدران والأبواب والنوافذ والأرض والسقف.
هدأة القيلولة تروقني كما الشوارع الخالية من المارة. كل شيء من حولي يهرب من الضجيج ويميل إلى الموت المؤقت حتى جسدي يفعل ذلك. يغمرني هدوء هو ما جعلني أن أسطر لك الرسالة الأولى في حياتي لفتاة مثلك عامرة باللطف والجمال وطافحة بالحسن.
في النهار أدفن مخاوفي وقلقي وحيرتي وحزني العميق وألمي حتى لا يتعكر صفو روحي لكي أجد في عافية الروح طاقة أعمل بها في الحقل الفسيح. تلتئم أعصابي الممزقة هنا حين ألوذ من شقاء نوبات العمل التي تشبه الاتبراوي الذي لا يلتزم بمجراه أوان تلبَّد السماء بالسحب الرمادية.
على مدّ النهار انتظر كل شيء بقين الزاهد، بأن الله سينصرنا على الأوغاد الذي سربوا الخنزير إلى حقل قصب السكر.
هذه الأيام أجمع الرَّماد البارد من تحت موقد الطبخ ومن الأرض التي أحفرها لعمل مجمرة للقهوة، وأخلطه بالتراب الخشن وأصنع منه عجينة رخوة تشبه الصلصال لكي أمسح بها أعلى سقف البيت. 
قبل قليل أطفأت النار. قهوة النهار تعدل مزاجي مثلما أرى الحقل مشذبًا من الحشائش الضارة. يؤلمني أن اجتز نبتة الموليتة من جذورها والأكثر إيلامًا أن أجعلها على رأس كومة الحشائش اللينة حتى تجف وتأتي النار عليها وتحيلها رمادًا باردًا، سمجًا تشتته الريح صوب الحقل وفي الأنحاء بلا جدوى. ينطفئ اللهيب وتبقى النار ذكرى، كتلك الذكرى التي حملتها من وادي برلي في يومٍ ما من أيام العام 1969م. 
اليوم الذي غادرت فيه الوادي من غير رجعة في صباح أغر ومعربد برائحة الطمي ولوعة عشيرتي التي ودعتني عند منحنى الوادي متجهًا إلى محطة السكة الحديد بنيالا البحير. كانت رحلة طويلة تنقلت فيها بالقطار حتى وصلت محطة دغيم خلال أسبوع كامل.
امتد أفُقُ السماء أمامي عكرًا بالغيوم الرمادية والسوداء والمُرقَّطة، كأنها ملامح وحش غائرة في بطن غابة رماديّة محترقة بفعل خطوط النار.
تذكرت الدجاجة الرقْطاء التي كانت تحبها أمي رحمة الله عليها! تمنحها كلّ عنايتها في رفقة رقيقة ومأمونة. لقد رحلت مع أمي بُعيد رحيلها الفاجع والمؤلم، ونحن في مناطق نباتات الجزو في أقصى الشمال الجغرافي لأقليم دارفور. حاصرنا الصقيع حتى تيبست أطرافنا في هذا الطقس القارس. تلك أيام أتذكرها كل ما طواني الليل هنا بظلمته وسدفته في غياب أهلي حيث يطمرني حنين ويصرعني.
على امتداد الطريق، ملأني الخوف والرعب مما أنا فيه ومقبل عليه. لا أعرف أحدًا. فقط  أحد أبناء عمومتي دلني على فرص عمل في مشروع خشم القربة للسكر. لبيت نداء الروح وعزمي على الرحيل. وما تأخرت كثيرًا.
ها الآن أعبر لك عن مكنوني، وما تأخرت كثيرًا في الرد لك كعادتي التي ورثتها عن أهلي. عسى أن يصلك مكتوبي هذا ويجدك في قمة السعادة، موفورة الصحة والعافية. تنهلين من مناهل الحياة واكسجينها.
لا أجد حرجًا في نفسي لكي أقول لك: إنني أحبك للأبد. هذا طريقي واخترته لنمضِ معًا نحو جنتنا التي ستجمع شملنا في القريب العاجل تحفنا الملائكة وأقدار الله الأروع. 
بوسعي أن أشتهيك كما أشتهي البرتقال أبو سُرَّة؛ سُرَّةُ وادي برلي.
مخلصك للأبد
خليل سليم


نواصل،،،،،،،[/rtl]
[rtl][ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[/rtl]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
دروب الطوايا... قصبنا إن اشتعل!
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تائهه فى دروب النسيان

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات مصنع سكر حلفا الجديدة  :: المنتديات العــــــــــامة :: التوثيق-
انتقل الى: