اليوم وفي صلاة العشاء سمعت درساً ألقاه أمام المسجد و يتحدث فيه عن دعوة المظلوم وتغير الاحوال من حال الى حال واعجبتني القصة التي سردها الامام وقمت بالبحث عنها وانقلها لكم لما فيها من دروس وعبر :
وهذه القصة فيها عجب وعبرة، ذكرها عدد من المؤرخين، وقد حصلت في بلاد الأندلس، ذكروا أن حاكماً من حكام الأندلس يقال له "ابن جهور" وكان أميراً على قرطبة أحد كبار المدن الأندلسية، حاول بعض جيرانه أن يعتدي عليه وهو "يحيى بن ذي النون" حاول أن يعتدي عليه ويأخذ ملكه، فاستنجد بن جهور بأحد حكام الأندلس يقال له المعتمد بن عباد، وكان ملكاً قوياً شاعراً أديباً مشهوراً، فجاء المعتمد بن عباد وساعده وقضى على عدوه، ولكن المعتمد بن عباد لما رأى قرطبة وما فيها من المياه والبساتين والخضرة والأموال والترف، طمع فيها وبدأ يخطط للسيطرة عليها، فأدرك ذلك أمير قرطبة ابن جهور، فذكّر المعتمد بن عباد بالعهود والمواثيق التي بينهم، وذكّره بالله، لكن المعتمد بن عباد كان مصراً على احتلال قرطبة، وفعلاً تحقق للمعتمد بن عباد الاستيلاء على قرطبة بعد طول كيد وتدبير وتخطيط، فاستولى عليها وأخذ أمراءها، وطردهم منها، وصادر أموالهم، وقتل منهم من قتل، وسجن من سجن، وخرج أمراء بنو جهور من قرطبة بلا مال ولا جاه ولا سلطان، أذلاء خائفين مذعورين، وبعدما خرجوا منها، التفت ابن جهور إلى قرطبة، هذه المدينة التي طالما تمتع بحكمها، وعرف أنه ما أخرج منها ولا تسلط عليه ابن عباد إلا بسبب دعوات المظلومين، وبسبب الدماء التي أسالها ظلماً وعدواناً، وبسبب الأموال التي أخذها بغير حق، وبسبب ظلمه للناس وحيفه ومعاملته لهم، عرف ابن جهور هذا فالتفت إلى قرطبة ورفع يديه إلى السماء وقال: "يا رب اللهم كما أجبت الدعاء علينا فأجب الدعاء لنا، فإننا اليوم مسلمون مظلومون" فدعا الله - عز وجل - على المعتمد بن عباد وخرج بنو جهور، وظل ابن عباد يحكم قرطبة ردحاً من الزمن، يتمتع بما فيها من الترف.
وقد بلغ الترف بالمعتمد أنه كان عنده جارية جميلة تسمى "اعتماد" وكان المعتمد يحبها، أطلت هذه الجارية في يوم من الأيام من أحد نوافذ القصر، فشاهدت بعض النساء القرويات يحملن على ظهورهنّ القرب وفيها السمن وغيره، يذهبن ليبعنه في الأسواق، وقد هطل المطر من السماء، وأصبحت الأرض فيها من الوحل والطين، فكانت هؤلاء النساء يطأن في الوحل والطين وعلى ظهورهنّ القرب، فأَعجب هذا المنظر هذه الجارية، فقالت للمعتمد بن عباد: أريد أن أفعل مع الجواري والبنات مثل ما يفعل هؤلاء النساء، فقال ابن عباد الأمر هين، فأمر بالكافور والمسك وماء الورد فخلط بعضه ببعض، حتى صار مثل الطين في أرض القصر، طين ليس من الماء والوحل والتراب، لكنه طين من المسك والكافور وماء الورد، إلى هذا الحد بلغ به الترف، ثم جاء بقرب وحزمها بالإبريسم، وهو نوع من الحرير، ثم حملتها هذه الجارية ومن معها وبدأن يطأن في هذا الطين، أو بالأصح في هذا الورد والكافور والمسك، وتم لهنّ ما أردن، لكن تلك الدعوات التي خرجت من المظلوم ابن جهور ما تزال محفوظة، فما هي إلاّ فترة من الزمن وإذا بملك النصارى يهدد المعتمد بن عباد، وطلب منه مع دفع الجزية التخلي عن بعض القصور والدور فرفض، ووجد نفسه مضطراً أن يستعين بأحد حكام المرابطين وهو يوسف بن تاشفين، فأرسل إليه يستنجد به، فجاء يوسف بن تاشفين، ودخل قرطبة وخاض معركة ضد النصارى وانتصر عليهم وطردهم، وبعدما انتصر على النصارى وجد يوسف بن تاشفين نفسه مضطراً إلى السيطرة على قرطبة، فقبض على المعتمد بن عباد وأولاده، فقتل بعضهم على مرأى من أبيهم، وأودع المعتمد السجن في مدينة في المغرب تسمى "أغمات" فبقي مسجوناً فيها عشر سنوات، ثم انتهت هذه السنوات العشر بموته، وكان فترة سجنه مجرداً من كل شيء، والقيود في يديه ورجليه، ويرى بناته اللاتي كُنَّ بالأمس يطأن في المسك والكافور، يطأن اليوم في الطين والوحل، وهنّ يغزلن للناس من أجل كسب العيش، ولا يملكن شيئاً، فبكى بكاءً مراً ثم قال يخاطب نفسه في إحدى المناسبات وقد فرح الناس واستبشروا بالعيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا *** فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة *** يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة *** أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن في الطين والأوحال حافية *** كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
من بات بعدك في ملك يسر به *** فإنما بات بالأحلام مغرورا
إنها دعوات المظلومين، فدعوة المظلوم قد تصيبك في نفسك، دعوة المظلوم قد تصيبك في مالك، دعوة المظلوم قد تصيبك في ولدك، دعوة المظلوم تقلب صحتك سقمًا, دعوة المظلوم تقلب سعادتك شقاء، دعوة المظلوم تجعلك بعد العز والغنى ذليلاً حقيرًا فقيرًا. والله على كل شيء قدير. بارك الله لي ولكم...