حى التجار

هكذا تلمسنا طريقنا إلى الحياة وتلك الدروب التي يصعب نسيانها مهما باعدت بيننا السنين وشتتنا في جوفها اللعين .. كان واضحاً إنني مغرماً بالمكان حد الثمالة للحد الذي لا يمكن وصفه .. ولأنها كانت (الحلة) تعني لي الكثير خاصة إذا رجعت إلى الوراء كثيراً وعلى وجه الخصوص على نحو أكثر من عقد من الزمان وما خلفها من السنين المتخمات بالود والشباب ..
لذا لم يكن غريباً على أن استهل مدخلي للحلة عبر (حى التجار) وعبر الشارع الممتدد من (فرن الرزم) سابقا و(فرن ابوعبيدة طه) الآن حتى يصلك بالترعة الغربية من الحلة عابراً أمام مدخل شارع الأربعين من أسفل جهته الجنوبية، حتى أقف على تلك البلدة التي لا تزال مدينتي وجنتي ورمال أشواقي التي أعبيها في ذاكرتي النضيرة بألقها ولب متنها الرائع وأشتل في فيافيها أشجار محنتي وحنيني من جذوع قصب السكر.. أياماً كانت مغروسة في عمق الروح بصلابة لا تبددها عواصف الغياب ولا رياح شتاء الرحيل بمثلما ميدان التكامل شاهدا عليها ذات يوم حتى قفز الأنيق (اوكير) وقلب الطاولة على حى التجار وحول صغارهم إلى فريق عملاق أسمه الأهلي وغدا بين الناس فريقاً محترماً يهز الأرض تحت أقدام العمالقة من فرق المصنع .. لذا عبيت روحي من هذا المنظر بكثافة المياه التي تتمدد أمام ناظرى حتى إستنشقت غبار أياماً كان نجمها ماجد مكين وكمال عبد الرؤوف وغيرهم من فتية أفذاذ حى التجار الزواهر ...
الميدان يبدو لي تدب فيه الحياة رغم أن المطر يغمره حد النخاع وتسرح فيه المياه مد البصر للحد الذي يمكن أن ترى مبني الكنيسة ساطعا على وجه (موية المطر) عاكساً ألق تلك السنين الخوالي ..
وتلك الكنيسة لها حكاية أخرى، حيث كنا نراه من على البعد كدار لا تشبهنا ولكنها تضم أخوة لنا في نسب المصنع الكبير، ولقد دخلناها ذات يوم للبحث عن طريقة نهتدي بها إلى كركور اللغة الإنجليزية الدامس الظلام .. دخلنا على وجل وعجل نلتبب أفخاذ الريبة وبعض وساوس الشارع ولكن ذلك انزاح منا حيث وجدنا أبناء المصنع الذين نراههم في ميدان الكورة، التعاون، المصنع، الرئاسة، فرن الرزم ومواطن والحاج، السوق، شارع الردمية والاربعين والترلات، وغيرها من الاماكن الصديقة والجميلة كلها بالمصنع .. تدثرنا برائحتهم وأريحيتهم وقضينا بعض الوقت وخرجنا ولم نعد إليها مرة أخرى حيث باغتتنا المدرسة بفتح أبوابها وضاعت فرصة أن نتعلم داخل هذا الحوش الكبير ونتعرف عن قرب إلى اخوة المصنع الذين كانوا هنالك .. وها هو المبنى يبدو مجسداً لنبل العلاقة التي تجمعنا بالمصنع رغم إختلاف الاديان ..
وتذكرت في هذه اللحظات (كرويف) أروع من لعب الكورة على ميدان السوق ضمن فريق الصداقة والذي كان يمثل الكنيسة ولم نكن على علم بذلك الأمر في ذلك الوقت وكأنه فريق عادي يمثل منطقة ما وبالفعل لعب فيه (الفاضل فرن) وغيرهم رغم إختلاف العقيدة ..
ولعلي أن اكون محظوظاً بنظرة عن كثب للبيت الأخضر الذي كان ذات يوم مائل إلى الأحمر الفاتح (الطوبي)، أيام كان والدنا الراحل المقيم عبد الرؤوف سعيد باسطاً سلطة أريحيته وبسمته وبشاشته وطرائفه التي لا تفارقه البتة أينما إتجهت تجارته الرابحة .. وبحق كان سمحاً وجميلاً مثل أبنائه تماماً كنخلة سمقت بأرض المصنع وأينعت نواضر ..
والرحمة أيضا على روح والدتنا الحاجة رفيقة درب الراحل عبد الرؤوف .. التي ما فتئت تشغل وقتها بسماح روحها وأعظم كتاب حفظته ذات يوم ورحلت به .. رحمة الله عليها ..
البيت لم يزل عريقاً كعراقة أهله وكرمهم النبيل .. واقفاً وشامخاً يحكي ماضي أيام مضت ويروي ظمأ إشتياقنا لهفة وحضوراً إلى شخوصه الحية في ذاكرتنا وكأنهم الآن يعطرون أجواء المكان ..
وما زلت ممتناً لذاكرتي التي تحتفظ في أعاليها بتلك المساءات الجليلة التي محنتني فرصة أن اتوسط الراحلين وبيدي كوب من (شاى اللبن) وبيننا (الونسة التفك الزهج) .. رحمة الله عليهما ..



هذا الشارع يربط ما بين فرن الرزم سابقا وابو عبيدة طه حاليا اي من القسم الزراعي الى الترعة التي تقع غرب الحلة عابرا حى التجار واسفل جنوب شارع الاربعين ..






منزل الراحل المقيم عبد الرؤوف سعيد


كنيسة المصنع الكبيرة




جزء من الحى الجديد الملاصق لكنيسة المصنع الكبيرة


منزل الراحل المقيم حاج الزرم سابقا واحمد بامسكيا حاليا


الاخ علاء الدين حسن بخيت امام حى التجار ..




الأخ خالد عبد الرؤوف بمعية ابنه امام مدخل بيتهم العريق

تحية طيبة اخي ناصر سرد جميل رائع...لتك الايام الخوالي...اناس كانو ملء السمع والبصر...تستحق ذكراهم كل الاحترام والتقدير...كان في حي التجار خلوة للشيخ محمد طاهر..انا احد خريجيها..وكذلك الاخ صلاح احمودي..والاخ علاء الدين والاخ الزبير... ان لم تخني الذاكرة..وكثيرون غيرهم.. سلمت يداك ....لك الود ...

ياسلام جزاك الله خيرا يااستاذ ناصر