خبيز أمهاتنا
لم يكن خالد ود الحاج التلب لوحده في جوغة مولد العيد كلما داهم البلد عيد الفطر السعيد وحان أوانه، وإنما كان يمثل عريس هذه الحفلة الباتعة بفعل وجوده الباذخ على سدة ادارة مخبزه. إذ لا يخلو فرنه في نهارات رمضان المباركة من هرجلة اولاد الموظفين وجنونهم وممارسة سلطتهم الآنية على صواني امهاتهم الغنية بالبسكويت والكعك وخبائز ما انزل الله بها من سلطان ..
وللجميل خالد التلب بال يتسع بعدد الناس ويزيد وبذلك أمتلك قلوبهم .. ومنهم من يملأ أكواب أزيار الزواية البرهانية ويجلبها إلى الفرن بكل بساطة في إنتظار خروج خبيزه للدنيا شاهراً نفسه للعيد وضحكات الاطفال (غاموس وكدا) .. ومنهم من لا يخالطه أدني حرج في إفطاره العلني أمام خلق الله شتى حتى طوب الفرن لم يضعوا له اعتبار .. ومنهم من كان صغيرا ومنهم من بلغ النصاب ومصاف التكليف .. وفي حضرة الخبيز تتقارب المسافات والاكتاف ..
وبفعل تلك التكاليف يتحول الفرن إلى سوق كبير وإلى حال أشبه بممالك النمل إذ يمكن لك أن ترى الصفوف القادمة والذاهبة في مسار واحد على طول امتداد حى الموظفين .. صفوف تبدأ من خمسين بيت مروراً بالبيوت الكبيرة وليس إنتهاءً بفرن خالد بل تستدير الدائرة وترجع نفس الصفوف بذات الطريق في عقد متصل، تصنع عادة اجتماعية جبل عليها الناس هنالك من أجل افراح العيد وأشياء تعلمها الناس الكبار منذ صغرهم قبيل حضورهم المصنع ..
وفي تلك الصفوف المنهمرة والهادرة تضج الحياة بالغناء والفوضى والعنف اللفظي والوحشي ويستمر هذا الكرنفال لأيام لا تتجاوز العشرة الأوآخر من شهر رمضان ..
ولعل صناعة خبز أمي كان مناسبة لتدفق نساء يضيق بهن الحوش الكبير وفضاء البيت المتسع .. وكما كان فرصة لنا لأفطار نهاري طازج من أيادي امهاتنا.. والصناعة تمتد بكل رواق البيوت ورواكيبها مناصفة ومبادلة كأحدى المناسبات الاجتماعية التي وطدت حياة الناس على اللقاء والسمر والتوادد والتعاون وهذا شغل الريف ونفيره في حماية المجتمع .. وكثيراً ما ينشغل المكان بصناعة خبز عدد من نساء الحى وفي ذلك حسن تدبير وكياسة علقت بفطنة أمهاتنا وبها يقللن من مصاريف العيد ويساعدن الأباء ..
وفي مشوارنا للفرن أيضا نفير نتقن حراكه في رحلة واحدة ولا تزيد لخبيز أم واحدة منا وإذ زاد عن ذلك يصير رحلتين وثلاثة وأربعة وهكذا دواليك ويصادف يومك كله هنالك عالقا في السكة ما بين الفرن والبيوت التي علمتنا معاني التكافل والرحمة بفعل مثل هذه الاعمال المجيدة وأحسب أنها لقد إندثرت بفعل التطور التقني الذي إنتظم حياة الناس ..
وما أروع رحلة العودة والكل منهمك بنشاط في التهام كل ما يصادف يده من خبيز حتى نكاد أن نأتي على آخره ونرجع خفاف وبخفى حنين كما إعتدنا كثيراً خاصة في رحلة الخبيز الناعم والمزركش والملون بالوان قوس قزح وحنين أمهاتنا..
والأجمل تنتظره في صباح الغد .. مهرجان صباحي نادر إئذانا ببدء تدشين ومباركة طعام العيد وبهذا نسبق الآخرين بعيدنا الخاص .. وما أروع تلك الأحاسيس وألطفها وما أجمل تلك الأيام التي كانت غنية بأهلنا وتراحمهم ...
وما زلت أحن لخبيز أماهتنا النضير وطعمه اللذيذ وفرن خالد والزاوية البرهانية متكئ جيلنا وذلك المشوار الذي علمنا معنى التكاتف والتعامل وأشعل فينا جذوة نار المعرفة والقيم والتواصل ..
ولصغارنا الآن جل خبز أمهاتهم وأن غابت ملامح مساراتنا إلى الفرن في نهارات رمضان العتيقة..
اللهم بلغنا رمضان أعواما عديدة.. وتقبل صيامنا وقيامنا.. واعتق رقابنا من النار ..
كل عام وانتم خير .. والرحمة لأمهاتنا ..
والمصنع بألف خير وعافية ..
