الملامح الرمزية في شعر الحميد
سليمان احمد خالد
شعر الحميد مليء بالإيحاءات الرمزية، منها ما هو الواضح البيَّن حتى يكاد يفقد معنى الرمز ومنها ما يحتاج إلى إعمال الفكر قليلا ومنها ما هو يكاد يكون طلسماً.
من يقرأ الحميد بتأني يستطيع أن يرى عدة رموز تستوقفه، فمثلا لابد أن يلاحظ تكرار الرقم ستة في العديد من القصائد والمناسبات فمثلا في قصيدة ست الدار يقول:
ستة خرفن وتيس ما كفن
وفي نفس القصيدة يقول:
هي يا الزين زغرد ...
بت أم زين جابتلها بت
ستة أولاد حتان البت
أما في قصيدة الجابرية فيقول:
إلا في ستة من الجابرية قالوا ..
تعبكم خارم بارم
يذهب حاكم خلف الحاكم
والجابرية بلد في حالها
أو:
ستة سنين قابض فوق جمرو
أو:
إلا الستة الصارو جماعة
فماذا يقصد الحميد بالرقم ستة؟
كنا في جلسة مناقشة نحن مجموعة من الأصدقاء ودار جدل حول هذه النقطة فقال بعضهم إنها ليست إلا رقم عادي جاءت به أوزان القصيدة وزعم البعض أنه يقصد أيام الأسبوع ويقصد بالتيس الجمعة ولكن هذا الرأي ليس صحيحاً لأن الحميد يقول:
ستة خرفن في فد يوم إنصفن
فالرمز الذي يقصده الحميد بالرقم ستة هو الأحزاب ( الاتحادي الديمقراطي – الأمة – البعث – الشيوعي – الناصري – الوحدة الجنوبي) أما التيس فيقصد به الحركة الإسلامية أو الجبهة الإسلامية القومية آنذاك، بالإضافة إلى أن اللحية التي هي أحد صفات الإسلاميين، والحميد يجعلها وجه الشبه بين الإسلاميين والتيس، وكان الرئيس جعفر نميري قد انقلب على جميع الأحزاب لذا أشار حميد إلى أن:
ستة خرفن وتيس ما كفن
ثم عاد نميري فاستعان بالإسلاميين وصفى وحَجَر على بقية الأحزاب وطاردها ومنع نشاطها لذا قال الحميد:
ستة خرفن في فد يوم إنصفن
ولم يأتي لذكر التيس، ثم نجد نفس الرمز يتكرر في نفس القصيدة عندما تقول ست الدار مخاطبة زوجها الزين:
هيي يا الزين زغرد
بت أم زين جابتلها بت
ستة أولاد حتان البت
نجد أن ميلاد الأحزاب السودانية الستة أقدم من ميلاد الحركة الإسلامية أو الجبهة الإسلامية القومية أو جبهة الميثاق، وهنا الحميد يسخر سخرية مبطنة داخل الكلام حيث أنه من المعروف في البيئة السودانية عدم الاهتمام بميلاد الفتاة حيث يرغب الناس في ميلاد الأولاد، وعند الفرح تزغرد النساء وليس الرجال لذا ينعكس الحال في واقع القصيدة إذ لابد أن يزغرد الزين لأن بت أم زين "وهي السودان " جابتلها "بت" فحميد في عداءه للحركة الإسلامية يجعلها تيسا وسط الخراف، أو فتاة وسط الأولاد واختياره لوصفها بالفتاة إذ أن وجهة نظره أن التراخي من سمات الحركة حيث يقول في الجابرية واصفا إمام الحلة في الصلاة:
صوتو مرخرخ لامن يقرا
يقرا ويقطع ... زي البِطرا
عند الركعة ركوعو متختخ
عند السجدة سجودو ممخمخ
شيخ الحلة بقول في أمرو
زول غرقان في الدين من عمرو
ستة سنين قابض فوق جمرو
وما فكاه طريق الله
فتراخيه حتى في قرأته في الصلاة فالصوت مرخرخ وهذا ليس ناتجاً عن ضعف الحبال الصوتية أو ليس التراخي في الصوت فقط، بل إنه عند الركوع ركوعه متختخ وكذلك عند السجود اشد حالات التراخي حيث أنه ممخمخ وحميد لا يقرن هذا التراخي بالرجل لذاته بل لكل الذين انضموا له فليونة هذا الرجل يعقبها تساؤل يدور في أذهان العامة لذا يجيب عليه شيخ الحلة – وهنا إشارة خفية في كلمة شيخ الحلة – بأن هذا الرجل غرقان في الدين منذ أن كان عمره ستة سنوات وهذا أيضاً رمز. وحميد لا يقر هذا، فالدين ليس تراخي ولا ينتج عنه تراخي فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وحميد يبين حجته في الأبيات التي تلي هذه المذكورة.
وفي قصيدة الجابرية يقول حميد:
إلا في ستة من الجابرية ...
قالوا تعبكم خارم بارم
يذهب حاكم خلف الحاكم
والجابرية تظل في حالها
حلة حياتها تسر الظالم
لا جلكوز لا تقرا رسالة
ولا راح يطلع منها عالم
يشير حميد هنا إلى أن من وقف في وجه الخداع والظلم في الجابرية التي هي السودان المصغر هم فقط ستة أفراد وأخفى حميد السابع في بناء القصيدة إلا انه ذكره بشكل عرضي "تسر الظالم " وعندما تولى شيخ البلة دائرة الجابرية في الديمقراطية نجد أن الستة كانوا هم موضع المعارضة الفعالة التي لا تبالي برضاء شيخ البلة الذي مثل الحزب الحاكم فقال:
إلا الستة الصاروا جماعة
قالوا دا زول تربايته مياعة
ما بشبهنا رفعة وضاعة
وقصة دينو ودقنو بضاعة
ونحن آمالنا تباعة
وإما مباعة
وفي الحالتين آمالنا مضاعة
ثم يستمر حميد في تحديد سمات هؤلاء الستة الذين لا يمثلون ذواتهم فقط إنما يمثلون القوة الفاعلة في المجتمع لذا كان لابد أن يُبعدوا من المجتمع حتى لا يكونوا نواة التفجير فيه فيقول حميد ممثلاً اعتقال الستة:
ومن يوم داك ما شفنا الستة
كما أن حميد عندما يريد أن يصف شيخ البلة على لسان شيخ الحلة الذي يعتبر من حزبه – لاحظ السخرية في توارد كلمة شيخ – فيقول:
شيخ الحلة بقول في أمره …
زول غرقان في الدين من عمره…
ستة سنين قابض فوق جمره
ومافكاه طريق الله
ولكن الستة يرفضون هذا التبرير غير المقنع لنعومة هذا الشيخ ...وهكذا.
كما أن حميد يستخدم لفظ الاثنين كرمز للدلالة على حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي فيقول في قصيدة تلغرافات على لسان ست الدار:
التومات طيبات ونصاح
إلا هُباش باللحيل آ الزين
أو:
التومات أول البارح جني يرطنن
قالن أنحنا الخواجات
وفي قصيدة الضوء وجهجهة التساب لا يأتي ذكر التومات صراحة بل ضمنياً في كلمة (فرخينو) أي فرخيه وفرخا القمري رقم مزدوج ككلمة التومات التي ذكرها حميد بقوله:
عش قمري بي فرخينو ...
كان من حظ ورل
أو:
عصرت على طرف الطريق
عقدت سفنجتها بي دلق
كان كل فردة جارها من بلد
وينشافن الاتنين خضر
والليل ستر... الليل ستر
فهو يقصد بالتومات حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي كما ذكرنا وإشارته إلى (هباش باللحيل) كناية على عدم أي تجديد في خطط الحزبين منذ أمد بعيد وسيطرة وجوه محددة على مقاليد وآراء الحزبين وهو عندما يقول:
التومات أول البارح جني يرطنن
قالن أنحنا الخواجات
فهو يشير إلى تقليد بعض زعامات الحزبين إلى الأجانب أو ميلهم إلى الدعم الخارجي والمعارضات الخارجية ثم عندما يقول:
العضمين الروكة أنزرعن
يشير إشارة واضحة إلى التجديد في الحزبين بانضمام جيل من الشباب الذين نظروا إلى موروث الحزب من زاوية أن الأفراد يمضوا ويبقى الحزب، أو بصيغة أخرى أن الولاء ليس لفرد بعينه أو مصلحة بعينها إنما الولاء للحزب والمصلحة مصلحة الحزب، لهذا فهذه هي الزراعة التي لحقت بالحزبين أو العضمين الروكة.
ثم نجد إشارة عددية أخرى تتكرر في قصيدة ست الدار مرتين حيث يقول على لسان ست الدار بت أحمد:
كانوا حداشر وخواجية.
ثم يقول في نفس القصيدة على لسان الزين ود حامد:
شرقت شمس اليوم التاني
كنا حداشر ونوباوية
متهمننا بالتخريب والتحريض والشيوعية
وتناقشنا في معنى هذا الرمز العددي فقال جزء من الأصدقاء إنه يقصد انشقاق الأحزاب على بعضها البعض كما يقول أحمد مطر:
أكثر الأشياء في بلدتنا
الفقر والأحزاب وحالات الطلاق
عندنا عشرة أحزاب
ونصف الحزب في كل زقاق
كلها يسعى إلى نبذ الشقاق
كلها ينشق في الساعة شقين
وعلى الشقين شقان من أجل تحقيق الوفاق
ولكن هذا التفسير ينقصه معنى الإشارة إلى التأنيث في (خواجية ونوباوية) فهي لا تستقيم مع هذا التفسير لذا فقد قال أحدهم إنه يقصد قوله تعالى:"إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" فست الدار تقصد بالحداشر أخوة يوسف والتأنيث لها أما الزين فهو يعقوب عليه السلام إلا أن المعنى أيضاً لا يستقيم فست الدار لا تحلم وليس هناك نبوءة تتحقق وما وصلنا له أن حميد يقصد عدد شهور السنة الاثني عشر ويؤنث الشهر الذي حدث فيه الانقلاب، فجعفر نميري عندما قام بالانقلاب استعان بالرموز الوطنية في الحزب الشيوعي لذا كان شهر الانقلاب نوباوية أما عندما انقلب على الشيوعيين صار خواجية إشارة إلى استعانته بأجانب.
إذا تركنا الترميز العددي جانباً نجد أن حميد يملأ شعره بترميز آخر يكاد يخلب اللب فهو يقول في نورا:
مرة شافت في رؤاها
طيرة تآكل في جناها
حيطة تتمطى وتفلع
في قفا الزول البناها
حلم نورا في هذه القصيدة هو واقع حال الشيوعيين مع ثورة مايو فالشيوعيون هم من أتى بمايو ووضعوا نميري في سدة الحكم على أن يتحول الإنقلاب الي ثوره تلبي طموحات الجماهير التي يرغبون فيها إلا أن النميري انقلب على الشيوعيين قتلا ومطاردة وتشريداً فكان كأنه "حيطة تتمطى وتفلع في قفا الزول البناها".
كذلك اتجه حميد إلى الترميز برمز واضح في اسم راشد إذ يقول في ست الدار:
شهر اتنين المدرسة تأجز
شهر اتنين حا نطهر رشد
وراشد حالف ما يطهر
إلا أبوه وعمتو تحضر
وإلا يجيبوا الغنايين
شان الشول بت سرنا ترقص
قلنا نجيب المداحين
طنطن راشد "ياخ أنا جايي من الحج"
وعارف راشد لما يطنطن....
كل الدنيا الفوقي تطنطن
غايتو بشر بس ربي يهون
ربي يهون
راشد هو الاسم الكودي للشهيد عبد الخالق محجوب والمقصود به هنا الحزب الشيوعي ككل، فالتطهير داخل الحزب كان من سمات الحزب الشيوعي الأولى والميل للدنيا بشكل عام "الغنايين" وليس إلى الآخرة "المداحين" كما أن الحزب الشيوعي كان من اكثر الأحزاب نشاطاً في إشعال الثورات والإضرابات العمالية أو المظاهرات الطلابية لذلك "وعارف راشد لما يطنطن ... كل الدنيا الفوقي تطنطن... غايتو بشر بس ربي يهون" فراشد ليس فرداً عادياً لكي ما يكون غضبه غضباً عادياً.
ويتجه حميد اتجاهاً أخراً في الرمزية في قصيدة الضو وجهجهة التساب حين يرمز لكل الأحزاب السياسية بالكلاب ثم يختار لكل حزب صفة يلحقه بها فهو يقول:
يا الدنيا كيف متقلبنة
تصحا العصافير الوديعة
مع الصباح متخلقنة
شر الكلاب متمسكنة
وين جرتا وهوهيوا وين
الليلة غاب
كلب الجناين زيو زي كل الكلاب
كلب الغلابة المستغلين العبيد
الليلة ريس سيد مهاب
كلب أب زهانة تهينو هانة
ومن المهانة تقولو (تك)
فماذا يريد حميد أن يقول؟ وعلاما يرمز بكل هذه الكلاب؟ وما المقصد من هذه الرمزية ؟
أولاً وقبل كل شيء حميد لا يقصد الإهانة بكلمة (كلب) بل يقصد التبعية غير المشروطة كتبعية الكلب لصاحبه هو يقصد بالعصافير الوديعه طلاب المدارس والجامعات الذين كانوا يخرجون في الصباح الباكر إلى المدارس ولكنهم أخذوا يخرجون إلى المظاهرات التي كانت الشرارة للانتفاضة فهذه العصافير الوديعة تستيقظ منذ الصباح في أشد حالات الغضب (متخلقنة) ثم يعرج حميد ليستعرض باقي تشكيل الشارع السياسي أو الشارع السوداني فهو يرمز بكلمة شر الكلاب ويقصد بهم الشرطة أو رجال الأمن ففي حالة مسكنة لا يستطيعون شيئاً مما يجعل حميد يتساءل ساخراً (وين جرتا وهوهيوا؟ وين؟) فهذه العنترة قد غابت عنها وصارت لا حول لها ولا قوة بل أنها صارت تخشى على نفسها ثم يتساءل عن كلب الجناين الذي صار مثله كمثل بقية الكلاب لا تمييز له عن غيره، وحميد يقصد بكلب الجناين اتباع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي الذين هم أحزاب لها جنائنها المعروفة في العاصمة المثلثة وبيوت عريقة، وهم يعتبرون أنفسهم مميزون إلا أن هذه الأحزاب في انتفاضة السادس من أبريل صارت مثلها مثل البقية لا امتيازات لها، أما عن كلب الغلابة المستغَلين العبيد وهو يقصد به أتباع الحزب الشيوعي السوداني ففي رؤية حميد أن الحزب الشيوعي هو ناصر الفقراء والمستضعفين في الأرض (يا عمال العالم وشعوبه المضطهدة ... اتحدوا) فهذا الكلب اليوم ريس سيد مهاب تخشاه جميع الكلاب أي أن الحزب الشيوعي في تلك الأيام تخشاه جميع الأحزاب وهذا رأي لا يخلو من وجاهة وقد يقصد حميد بكلب الغلابة الجماهير عموماً ولكن هذا رأي ضعيف.
ثم يسخر حميد تلك السخرية المبطنة بالرمز في كلمة كلب ود أبزهانة ويقصد بهم أفراد جهاز الأمن وأتباع الرئيس جعفر نميري فهذه الكلاب صارت لا حول لها ولا قوة إلى درجة الإهانة البالغة التي تستطيع فيها أن تقول لهذا الكلب (تك) التي تقال للماعز (كلب ود أبزهانة تهينو هانة... ومن المهانة تقولو تك)، وهذه السخرية التي تثير في داخلك آلاف الخيالات كذلك الضحك من حال هذا الكلب إنما هذا هو حال انقلابات الفرح فالدنيا لا تبق على حالٍ واحدة فهي تدور على كل أهلها.
ومما يدل على أن حميد قصد نميري بكلب ود أب زهانة قوله في قصيدة ست الدار على لسان ست الدار:
زولك دا يحير ....
وكت الجد كان أدى ينقنق
وكت الفارغة يشيل ويبعزق
فهذه هي الرعونة الحقة -وهنا كلمة (كان) بمعنى (إذا)- وهذه إشارة لسياسة الصرف غير الرشيدة في عهد الرئيس النميري ..... إنتهي حتي جديد اللقاء بكم في ملزمح آخر دمتُم في رعاية الله وحفظه.. والرحمة والمغفره لشهيد الحق والخير والجمال والنضال محمد الحسن حسن سالم حميد