(رسالة غير مهمة )
الساعة الحادية عشر والنصف مساءا...
بعد نصف ساعة سيحتفلون بمقدم العام الجديد .. كلهم سيفعلون .. ولكن أنا سأحتفل بطريقة خاصة للغاية .. طريقة ستجعلني خالدا في أذهانهم عبر الأزمنة ورؤوس السنوات .. المسدس جواري محشو ، وأمامي ورقة أخط عليها هذه الرسالة وجواري تذكرة الطائرة وعقد العمل ومرارة خمسة وعشرين عاما .. البيت خال تماما ، فزوجتي ماتت قبل ثلاث سنوات بالفشل الكلوي لأن الآت الغسيل كانت متعطلة وقتها ، وإبني الوحيد سافر بعدها بعام واحد إلى الخليج ولم يعد حتى اليوم .. لقد تزوج ممرضة فليبينية لذلك عرفت إنه لن يعود مطلقا .. لا أحد يتزوج فليبينية ويعود .. لقد قالها لي ذات يوم عبر الهاتف :
- ميزة هذه الحكومة يا أبي هي أنها جعلت الأمور أسهل لكل مغترب .. كل من يغادر بلده يحن لها ولأهلها وشوارعها وتاريخها ، إلا نحن ياأبي لأنهم يدمرون بنجاح كل مانحبه ويجعلنا نشتاق لها .. لم يبق لها يا أبي غير أن تقتل آبائنا لتقطع كل خيط يربطنا بذلك التراب ..
قلت لنفسي بمرارة شديدة وأنا أنظر للمسدس ولصورة أمه :
- لقد فعلوها يا ولدي .. فعلوها
وبقيت وحدي .. أستاذ جامعي في الخمسين ناجح المظهر فاشل المضمون ، في وطن يقدس ماعلى الأكتاف وليس ما بداخل الرؤوس .. وحين ضاقت بي أرسل لي إبني ذلك العقد وطلب مني الهروب كما هرب العشرات من زملائي ... مازلت أذكر كل لحظة وكل تفصيلة وأنا أنهي إجراءاتي .. لم ينظر أحدهم لمهنتي ولم يسألني لماذا أهاجر .. الزكاة الضرائب الجبايات الدمغات ، هي كل مايهمهم .. لم أكن بالنسبة لهم عقلا عمره المهني خمسة وعشرين عاما يفر من البلد ، بل كنت جيبا منتفخا بالريالات ستعود إليهم ... ساعتها قررت ألا أهرب ... أنا ولدت في هذه البلد قبلهم وعشت في عصر أجمل ودرست حين كان الناس يدرسون ... لن أهرب للخارج ولكني سأهرب لأعلى ... الساعة الحادية عشرة وستة وخمسين دقيقة أشعل السيجارة ورمادها يتناثر على الورقة وأجذب المسدس ... ستتناثر بضع قطرات من الدم على هذه الورقة لذلك أعذروني إن لم تستطيعوا قراءة بعض الكلمات .. الساعة الدقيقة الثامنة والخمسون .. أمسك المسدس بقوة .. يد على الزناد ويد ممسكة بالقلم وسجارة على الفم .. صوت راديو من بعيد يلعلع بالأناشيد الوطنية لفنان أحبه .. ياوطني يابلد أحبابي في وجودي بحبك وغيابي .. حين يكذبون على أنفسهم والناس يشغلون هذه الأغنية ، وحين يسالمون يقوم منافق ما ليشجينا ب( رفرفي رفرفي ياطيور السلام ) وحين يسأمون من السلام يجعلونه يغني ( شدو لك ركب فوق مهرك الجماح )... وداعا يا إبني ويؤسفني أنك تنتظر الآن في المطار طائرة أبيك .. الساعة الثانية عشرة تماما .. صوت إنفجارات وألعاب نارية وعشرات الأضواء أنا واثق بأن صوت طلقة يتيمة ينطلق من بيت منسي سيضيع وسطها ... كل سنة وأنتم طيبون
د.حامد موسى بشير
[u][b]