من وحى مناسبة المولد
على يقين تام بأنني في مثل هذا الوقت لن أكون هنالك مهما طويت المسافات كسندباد أيامئذ. وهذا ما يؤلم حقاً ويشد من جذع النفس ويذهب بها مناحٍ شتى في ضروب الحياة التي فرقت بيننا وأجمل الأوطان التي عرفناه باكراً في طفولتنا. وحنيني إلى المكان الجميل؛ المصنع أكثر مما لليوم المقدس عند أهل الصوفية حيث يصنعون فيه فرحهم الكبير والصدع بأناشيدهم وجلالاتهم والغناء بمجد أولياءهم وأقطابهم ..
أعرف في هذه اللحظات بالذات الجميع مشغولون؛ بعضهم بحلقات الذكر ونوبات الصوفية وجلاليبهم المزركشة في انتظار قداح (الفتة أم توم)، والبعض الآخر يطلق لعيونه العنان صوب الحسان.. واطفالنا: نور العين، في حيرة يقفون أمام الخيول والعروسات وحلوى المولد بشتى أنواعها .. وفي الجانب الآخر هنالك وجوه متحفزة للصراع عبر ندواتهم التي لا تفتر عن بدع الصوفية وقبابهم..
من المناسب هنا أن أستعير عبارة للأديب خالد الحساني بهذه المناسبة، عسى ولعل أن توضح بعض أين نحن نقف: "دائما بكون في حيرة .. في حب الرسول صلي الله عليه وسلم بين جفاء السلفية وغلو الصوفية".
أجل. الإحفتاء بالرسول الكريم ومولده نوع جديد من الطقوس التي ظهرت مع الطرق الصوفية، وكان جديد عهدها بدخول الموالي في الاسلام بُعيد الفتنة الكبرى التي أطلقت عقال التصوف والشعوذة والدجل من خلال أفراد وجماعات وتلك أبواب جاءت بروح الديانات التي تعمر جزء كبير من شبه القارة الهندية علاوة على وثنيات اليهود واختلاف فرقهم الدينية التي سيطرت على المشهد الاسلامي ومنها نمت مثل هذه الظواهر وتداعت الفرق والجماعات الاسلامية ولم تمت حتى يومنا هذا، مما أضعفت من قوة المسلمين ..
بلا شك لعب الكثير من الصوفية دوراً كبيراً في إنتشار الاسلام بالقدر نفسه ساهم آخرون بصورة سلبية مما شوهت من عمق الإسلام وأدخلته في نفق ضيق لا يستوعب فكرة أن الاسلام ليس مظهر بل هو جوهر وهذا أيضا ما تفتقده الجماعات السلفية الشقية بالتفسير الغليظ..
فالإسلام أضحى تجارة عن بعض الجماعات أياً كان نوعها وموقفها من قضايا الدين. وعندما قرأت بمحض المصادفة إعلاناً عن الطعام المحبب للرسول صلى الله عليه وسلم أصبت بنوع من القشعريرة خاصة إني وجدته يتحدث بإطناب زائد عن اللزوم وبصورة مقززة عن حلقة فريدة بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، يُبدع فيها الشيف أسامة أطباق مميزة من وحي المناسبة العطرة، مستخدماً مكونات من الطعام المُحبب للرسول الكريم، مثل كتف ضأن فوق خبز الرقاق، خروف صغير مشوي مع تين وسفرجل، خبيصة بالفستق، سلطة بطيخ وتمر، حليب رائب مع عسل ودبس، وخبز التميس بالزيتون.
ورسولنا الكريم كان يطوي سَّدَفُ الليالي على الأسودين .. وقد ورد في كتب الحديث عن السيدة عائشة رضي الله عنها: "مات رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين وسقاً من شعير في نفقة عياله" رواه البخاري، رقم (1537).
أعرف إن مداخلتي هذا ستغضب بعض وتفرح البعض؛ فالإثنين لا أقصدهم بالمعنى وهذا الحديث للجميع وأهلي بالمصنع الذين أحبهم..
فهمي يتجلى ويتمظهر في أن أكون هنالك حتى إمتطي صهوة حصاني الذي كان يجلبه لي أبي وأدفن عيوني هناك وننال نصيبنا من طعام المولد ونمضي في غناءنا: الفتة أم توم حمتنا النوم بعيداً عن الخناجر التي تتصاعد هذه الايام في حلبات وخيم المولد؛ بربكم هذا هو الدين الاسلامي.