محاكمة القاتلة الحسناء
(القصة الواقعية للمحاكمة التي عرفت "بقضية لقيطة" وجرت برئاسة القاضي والشاعر الطيب محمد سعيد العباسي)
بقلم: أسعد الطيب العباسي
عندما أذن الزمان لشهر يونيو ليبدأ دورته في العام 1957م وفي مساء من مساءا ته المثيرة والشمس تلتحم مع غروبها النحاسي الآفل, تسورت نبيلة إبنة العاشرة حائط الملجأ ورمت بنفسها خارجه، هي لحظةُ كانت تخطط لها منذ أمد بعيد, فلم تكن نبيلة مسرورة بوجودها في هذا الملجأ القذر وكم كرهت تلك الغلظة التي كانت تبدو على وجه تلك المشرفة, ولم تحب حماقات ومشاكسات أولئك الأطفال اللقطاء الذين كان يضمهم الملجأ معها. بدأت نبيلة تركض مبتعدة عن الملجأ الذي بدا لها فى احمرار الأفق كنقطة سوداء تتباعد حتى تلاشت تماماً.
أخذت نبيلة تجوب بأقدامها الصغيرة شوارع مدينة القضارف دون هدف, فقد كان هدفها الوحيد هو الهروب من جحيم ذلك الملجأ, وعندما أخذ التعب منها كل مأخذ وأطبقت شفاهها الجافة على لهاتها اليابسة بفعل العطش وأحست بالجوع يهجم على معدتها طرقت أول باب صادفته وما أن فتح الباب حتى سقطت نبيلة عل مدخله, وأفاقت من إغماءتها وهي على فرش لم تعهده من قبل كأن حواشيه من المخمل الأرجواني, وبجوارها سيدة تنظر إليها في حنو وتحنان.. من أنت؟, ومن أين جئت يا ابنتي؟, لم تحاول نبيلة الكذب وردت عليها قائلة: هربت مساء أمس من الملجأ ولا أود الرجوع إلى ذلك المكان الذي كرهته.
ورغم أن السيدة أدركت أن نبيلة لقيطة غير أنها عادت وسألتها عن عائلتها, فردت عليها نبيلة قائلة: قالت لي المشرفة على الملجأ أن أبي إنفصل عن والدتي وهاجر إلى مصر ولم يعد, وأن والدتي توفيت عندما كانت تضعني, وعندما لم يجدوا لي أهلا أتوا بي لأتربى في هذا الملجأ, هكذا رووا لى حكايتى. ثم بكت, فهدأت السيدة من روعها وهي تقول لها حسناَ يا ابنتي إني امرأة وحيدة أعيش بهذا المنزل بعد أن هجرني زوجي ولم أرزق بأبناء وأتكسب بصناعة الخبز من خلال هذا المخبز البلدي الذي شيدته بذلك الركن من المنزل وأريد أن أتخذك إبنة لي لتساعديني في العمل وتعيشي معي. فرقص قلب نبيلة فرحاً وبعد أن استعادت طاقتها بقليل من المأكل والمشرب بدأت عملها بمساعدة السيدة سكينة صاحبة المنزل وأبدت جدة ومثابرة في العمل واستطاعت أن تكسب ثقة سيدتها وعطفها في وقت وجيز, وتعرفت نبيلة على زبائن سيدتها في الحي وتفتحت عيناها على نوع جديد من الحياة ألفته بسرعة وأحبته بعمق. غير أن ما كان يقلقها ويؤذي مشاعرها أن صبية وصبايا الحي يتفادونها ولا يقبلون اللعب معها أو مسامرتها, فرغم أن نبيلة عرفت بابنة الحاجة سكينة إلا أن خبر هروبها من الملجأ وحقيقة أنها ابنة سفاح ذاع في الحي وانتشر.
مرت أربعة أعوام ونبيلة تنعم بوجودها مع الحاجة سكينة, غير أن طارئاً قد حدث فقلب حياتها رأسا على عقب, ففي صباح باكر سمعت نبيلة طرقا على الباب أفزعها, ففي مثل هذا الوقت لا يأتي الزبائن, فتوجست خيفة فربما علمت إدارة الملجأ بوجودها هنا وأتوا لانتزاعها فأسرعت ورمت بنفسها بين أحضان الحاجة سكينة فكم أحبتها ووجدت فيها حنان الأم الذي افتقدته فأخذت سيدتها تطمئنها وتعدها بأن لا قوة في الأرض تستطيع أن تنتزعها من هذا المنزل, واتجهت سكينة صوب الباب وفتحته وهي تستعد بكل ما تمتلكه من التحدي لمواجهة أي أمر يتهددها أو يتهدد إبنتها نبيلة, فإذا بها وجها لوجه أمام زوجها الذي هجرها, فقد عاد الحبيب الغائب وكأن شيئاَ لم يكن وبراءة الأطفال في عينيه, وكم أحبت سكينة هذا الغائب ولم تتغير مشاعره نحوه ف وجوده أو في غيابه وكم تمنت أن تقضي كل عمرها معه فنظرت إليه كأنما تنظر الى أجمل هدية يمكن أن تقدمها لها السماء وعندما التقت الاعين التقت على ذلك الود القديم وصارت سكينة كتلة من مشاعر الود والصفح والغفران, غير أن هذا اللقاء كان كفيلاً بأن يعيد نبيلة إلى الشارع حيث أتت, إذ لم يقبل عثمان وهو يعود إلى زوجته وجود لقيطة في منزله. فغادرت نبيلة المنزل وهي تحمل متاعها القليل وذكريات أجمل أربع سنوات في عمرها كله كان ختامها دمع تقاطر على خدها ليختلط بدموع سكينة في ساعة وداع أليمة, ومن ثم بدأت ملامح أخرى أكثر قسوة تتشكل على دروب نبيلة وعندما عادت نبيلة الى الشارع وهي لا تدري ماذا يخبأ لها القدر وماذا تفعل بها الأيام تأملت حياتها الماضية وأرهقها التفكير أين تذهب؟ وماذا تعمل؟, فغشيتها فكرة في جوف خاطر مباغت لماذا لا تجرب حظها في المدينة الجديدة (حلفا) التي أقيمت حديثاً على أرض البطانة أرض الجمال والشعر وهناك عملت خادمة بالمنازل وعاملة بمصنع السكر وفي المزارع وبائعة في سوق الخضار, وهكذا سارت بها الحياة وتقاذفتها الطرقات ولاقت من صنوف العذاب ما لاقت في هذه المدينة وكانت قد قدمت إليها وهي تمني النفس باستشراف مستقبل أفضل غير أنها لم تبارح القاع في معاناة متصلة الى أن كبرت وأضحت حسناء المدينة شابة فاتنة دعجاء العينين فارعة القوام ذهبية اللون فاحمه الشعر متكورة الصدر. لم تكن نبيلة منتبهة لهبة الجمال الذي وهبه لها الله إلا عندما أحست أن أعناق الرجال والشباب تشرأب إليها وأعينهم ترنوا إليها بنهم شديد, وكانت تعلم جيداً أن جميعهم ذئاب بيد أنها الآن بحاجة إلى رجل يسعدها ويبث جذوة عاطفته ليشعل الضرام في مفاتنها, ويبعدها عن هذا الشقاء إلى شاطئ الأمان, أنها بحاجة إلى رجل تحتمي به ويحوطها بالعناية والطف والحنان الذي طالما افتقدته منذ أن سرق منها عثمان الحاجة سكينة ومنذ أن وضعتها من قبل والدتها وهي وليدة في لفافة على قارعة الطريق, وعندما اشتدت هذه الرؤى وألحت على خاطرها قفز إلى ذهنها ذلك الشاب الوسيم الوافد إلى حلفا من الشمال ليعمل في محلج القطن, تذكرت نظراته المليئة بالحب وكلماته التي تحمل في جوفها سحرا ومحبة, تذكرت كيف كان يلقي بالكلمات على مسامعها برقة متناهية ويقرأ لها أشعار الدوبيت الغزلية وينغمها بصوت عذب تذكرته وهو يقول لها:
غَنَّايـِكْ وَقَـفْ عِنْـدَ العِيـُونْ غَلَبَـنُّو
وُعَاقْدَاتْ حَاجْبِكْ آ الدَرْعَه الكَلاَمْ
خَلَبَنُّو
مَا دَامْ عَقْـلِي شِلْتِي وَقَلْبِي مَـافِي لأَنُّو
عِنْدِكْ مِنْ زَمَانْ عَـادْ الوَصِـفْ كَيفِنُّو؟!
كان يأخذها الطرب لذلك مآخذاً بعيدة ولكنها كانت تبتعد عنه فى كل مرة. غير أنها الآن تحس أن حبا بدأ ينمو فى قلبها تجاهه، فأخذت تحدث نفسها لماذا لا تكون زوجة لهشام, إنه شاب يمتاز بطلعته البهية ويعمل في وظيفة بالمحلج وله منزل متواضع ولكنه جميل بحي المصنع, وفوق ذلك فهو شاعر وهي تحب الشعراء وتعتبرهم كائنات أثيرية وكل ذلك كفيل بإنـهاء حالة التشرد التي تعاني منـها وبإرواء أنوثتـها المتفجرة ووجدانها الوثاب. وعند أول لقاء بينهما أخذ هشام يهذي بكلمات حبه وسحر قوافيه وأخذ يقول لها:
جُزَيعِي وعَدَم صَبرِي و زَلاَزْلِي وخَوفِي
مِن سَـــــرَاجَة الدَعَجَا الوَضـــــيبَا مِقَوفِي
الخَـــــلانِي مــــِن الغَــــيرَا كَِتــــِر عَوفِي
رَيـــــدْها وعِشقــــَها البَنَـا في مَدَايِن جَوفِي
فقالت له نبيلة: أتريد الزواج بي يا هشام أم أنك تريد أن تغويني؟, قال: أتزوجك.
قالت: إني بائسة لا أهل لي. قال: أتزوجك. قالت: إني لقيطة وعشت حياة اللقيطات.
قال: أتزوجك. فأحست نبيلة بحب عميق يضرب كيانها والتهبت مشاعرها وشبت الحرائق في قلبها. وعندها أحس هشام أنه يسيطر على الموقف سيطرة كاملة اقترح على نبيلة أن تترك العمل وتأتي لتعيش في منزله ريثما يرتب أمر زواجهما, فبدا لها الاقتراح مريبا فرفضته ولكنه أردف قائلا سيكون الزواج في غضون أسبوع أسافر خلاله للأهل بالشمال لأخطارهم بزواجي ولن أكون معك بالمنزل سأقضي فيه هذه الليلة و سأحزم حقائبي باكراً للسفر, سأكون بغرفتي وستكونين بالغرفة الأخرى الملحقة بالسكن... صدقته... ثم رافقته لمنزله وبدأ الزمان يقرأ صفحة أخرى من كتاب مأساة نبيلة. فلم يكن هشام إلا ذئبا بشريا وكاذبا أشرا يتلفع بسحر كلماته وبراقة وعوده وعن طريق ذلك استطاع أن يستميل
فتاته في ليلته تلك وتمكن منها و أخذ يعاشرها معاشرة الأزواج, وكادت نبيلة أن تذعن لهذا الأمر الواقع فهي الآن تعيش مع من تحبه وتقضي معه أحلى الأيام والليالي, وقد استقر لها المأوى والمأكل والمشرب غير أنها كانت تنتفض بين الحين والآخر وتذكر هشام بوعوده المتكررة لها بالزواج, وعندما بدأت تلح عليه فى ذلك أسفر لها هشام عن وجهه الحقيقي وتوقف عن وعوده الكاذبة ورد عليها بحسم وعنف أن أهلي لن يقبلوا بأن أتزوج لقيطة ولن أقبل لنفسي بذلك, فإما أن نعيش كما نحن أو نفترق. صمتت نبيلة صمتاً حزيناً وعزمت على أمر وهو ألا تملكه جسدها بعد اليوم أبداً وصبر هشام على هذا الهجر طويلاً آملاً أن ترضخ فتاته بحسن المعاملة وحلو الحديث وأخذ يغرقها بالهدايا ولكن نبيلة ظلت على موقفها. وفي ذات ليلة عاد هشام وقد لعبت الخمر برأسه فرأى نبيلة نائمة فأخذ يتملى حسنها ويقول:
قَصَبَةْ مَنصَحْ الوَادي الســَــــحَابُو إِدَانَا
صِبْحَتْ نَاديَه مِن وَرَتـَــــــابَا لا سَيقَانَا
القَلَلْ صَبُرنَا ونَومْــــــــــــنَا زَاتُو أَبَانَا
وَجَدْتَها غَافْيه أَعْجَبْ نَومَا مِن صَحَيَانَا
وأيقظها وهو يتمتم بكل كلمات الحب الذي يكنه لها فأزاحته بيدها قائلة: ابتعد. ولكنه كان يحمل في تلك اللحظة أحاسيسا قوية تمنعه من الإبتعاد تماما فهجم عليها بضراوة واغتصبها بعنف ثم استسلم إلى نوم متوتر واستسلمت هي الى نحيب ودموع. وفي الصباح غادر هشام إلى عمله ومن بعده غادرت نبيلة المنزل وفي نفسها عزم بعدم العودة إليه مرة أخرى, وعندما عاد هشام ووجد المنزل خلوا من نبيلة جن جنونه واجتاحته وحدة موحشة فأخذ يزرع المنزل جيئة وذهابا هكذا إلى أن أتى الليل وأوغل ولم تعد نبيلة والدجى يحمل إليه كل أسباب الأرق ويترافق معه في سهر طويل وتباريح قاسية فقال:
بَعَد مَا اللَيلْ هِدَا وَسَكَتَنْ جَنَادْبُــو صــــــَرِيخِنْ
وَلَوَشْ نَجْمُو غَرَبْ وُبُومُو زَادْ فِـــــــي نَوِيحِنْ
عُيونْ الرَمَاد لَجَنْ وَزَاد الأَسَـــــــــى تَجْرِيحٍنْ
مِن وَينْ اَجِيبْ لَيهِنْ مَنَامْ طَولَ مَعَـاي تَبْرِيحِنْ
وفجأة فغر باب المنزل فاه عن القمر, جاءت نبيلة اضطرارا فلم يعد لها في ضفاف المأوى سوى هذا المنزل فأقبل عليها هشام فاتحاً ذراعيه ليحتضنها وتسبقه كلمات الاعتذار وتمتمات الحب ولكنها كانت منهكة فانزوت عنه إلى مقعد تهالكت عليه ولم تحدثه, أغاظه صمتها فقال لها لماذا تصمتين وأين كنت؟, فلم يسمع هشام ردا ولا جوابا, فقال وقد تملكه الإستياء: ردي يا فاجرة, فبصقت على وجهه, فهاج وتحول إلى كيان من الغضب وقال لها: أتبصقين على وجهي أيتها البغي المومس؟, أتبصقين على وجه سيدك أيتها اللقيطة الهاربة المتشردة؟, ورفع كفه وأخذ يضربها على وجهها ضربا مبرحا فهبت واقفة وهي تحاول الهروب من ضربات هشام بأنحاء الغرفة, وعندما رأت في وجهه إصرارا على العنف ورأت خنجره مسجيا على المنضدة التقطته واستلته من غمده بسرعة ووجهته بعنف إلى صدره حتى غاب فيه تماما فخر هشام ساقطا على أرض الغرفة مضرجا بدمائه وسرعان ما أسلم الروح, فجلست نبيلة إلى جوار الجثة وأخذت تجهش ببكاء مر ومن ثم قررت أن تسلم نفسها إلى السلطات وبخطوات واجفة ومرتعشة اتجهت إلى مركز بوليس حلفا الجديدة وأخبرتهم وهي تتهدج بما حدث, على إثر ذلك سارع البوليس إلى مكان الحادث ورفع الجثة وتحقق منها وتم فتح بلاغ جنائي بالرقم 95 لسنة 1968م تحت المادة 251 من قانون العقوبات السوداني القتل العمد ضد نبيلة توفيق صالح وتم إيداعها الحراسة القانونية وتمت مواراة الجثة بعد التشريح وبعد أمر القاضي المختص وكتابة التقرير الطبي بأسباب الوفاة الذي قرر وجود منفذ جرحي بسب آلة حادة بعمق عشر سنتيمترات وعرض ثلاث سنتمترات بالصدر اخترق القلب وسبب نزيفا حادا أدى إلى الوفاة.
رفعت البصمات عن الخنجر وتم وضعه كمعروض فى إجراءات البلاغ واكتملت التحريات التي ضمت اعترافا قضائيا من القاتلة وأعد قاضي الإحالة مذكرته بعد أن اكتملت لديه التحقيقات ومن ثم أحال البلاغ إلى المحكمة الكبرى التي ترأسها آنذاك قاضي مدينة حلفا الجديدة المقيم الشاعر الطيب محمد سعيد العباسي وعضوية كل من القاضيين بشرى الأمين مضوي ومحمد صلح النور علي. بدأت إجراءات المحاكمة وسط حضور جماهيري طاغي اكتظت به قاعة المحكمة وكان الحضور يزداد مع كل جلسة جديدة وأخذت المدينة تتحدث جهرا وهمسا بهذه القضية والكل يتكهن ويصدر حكمه, وما أكثر ما كان هناك من تباين بين آراء الناس حول هذه القضية التي تأرجحت مابين التعاطف مع نبيلة والقسوة عليها.. نبيلة كانت تبدو مطرقة وقليلة التوتر وهي داخل قفص الاتهام وبين الحين والآخر كانت تحاول حبس دموعها فتفشل فتنثال على محاجرها...هرع إلى الدفاع عن نبيلة عدد من المحامين على رأسهم محامي بور تسودان الشهير الهادي سليم. مع بداية الجلسة الأولى أمر رئيس المحكمة المتهمة بالوقوف وسألها:-
س:- اسمك؟
ج:- نبيلة توفيق صالح.
س:- عمرك؟
ج:- 21 عاما.
س:- جنسيتك؟
ج:- سودانية.
س:- ديانتك؟
ج:- مسلمة.
س:- مهنتك؟
ج:- عاملة.
س:- مكان سكنك؟
ج:- حي المصنع.
س:- أتجيدين القراءة والكتابة؟
ج:- لا.
ثم طلب منها رئيس المحكمة الجلوس فجلست وقد إزداد توترها وبلغ قمته عندما بدأ المتحري بسرد وقائع القضية والإجراءات التي قام باتخاذها والبينات التي جمعها حول الاتهام وأهمها إعتراف المتهمة القضائي الذي سرده وأقرت به المتهمة أمام المحكمة واختتم المتحري أقواله بقوله: إنه يقدم المتهمة لمحاكمتها عن جريمة القتل العمد تحت نص المادة 251 من قانون العقوبات. وبعد أن تمت مناقشة المتحري استمعت المحكمة لأقوال الدكتور محمد عبد الحميد موسى وهو الطبيب الذي أعد التقرير الطبي بسبب الوفاة ثم استمعت المحكمة إلى خبير البصمات الذي أكد وجود بصمات المتهمة على الخنجر الذي أستعمل فى القتل, ومن ثم طلب الإتهام قفل قضيته وتم رفع الجلسة لمدة عشر دقائق لإستجواب المتهمة. عادت الحكمة للانعقاد بعد مضي عشرة دقائق من رفعها وفور انعقادها أمر رئيسها المتهمة بالوقوف وطلب منها أن توضح للمحكمة ماتريد أن توضحه حول القضية، فوقفت نبيلة ولم يخف الإنهاك الجسدي والنفسي جمالها الأخاذ وحسنها الطاغي وبدأ الكل يتهيأ لسماع أقوال نبيلة التي بدأت حبيبات العرق تبدو على جبينها وتسيل لتختلط مع دموعها وفجأة وقبل أن تبدأ بالكلام سقطت مغشيا عليها على أرض قفص الاتهام فسارع نحوها الحرس وأمر رئيس المحكمة بنقلها إلى المستشفى وحدد جلسة أخرى لاستجوابها.
في جلسة الاستجواب الجديدة التي انعقدت بعد مضي عشرة أيام من سابقتها بدت نبيلة أكثر إشراقاً وأقل توتراً وأطلت على المحكمة بقوامها الفارع وقدها المياس وأخذت توجه حديثها لرئيس المحكمة وهي تسرد قصة حياتها كاملة منذ أن كانت بالملجأ وحتى ارتكابها لجريمة القتل بكل تفاصيلها البشعة وكانت كلماتها البسيطة وعباراتها المؤثرة والصادقة والمعبرة وقصة حياتها المأساوية سببا كافيا جعل أكثر الحاضرين يتعاطفون معها ويعبرون عن هذا التعاطف بإيماءاتهم وآهاتهم تارة وبدموعهم وبكاءهم تارة أخرى, وكانت نبيلة قد سبحت في بحر الكلام واستعادت رباطة جأشها كأنما كانت تقول مرافعة تبكي فيها ماضيها وترثي حاضرها.
فيما بعد قام رئيس المحكمة القاضي والشاعر الطيب محمد سعيد العباسي بترجمة ما قالته المتهمة في استجوابها شعرا من خلال قصيدة ذاع صيتها وطارت بأجنحة الشهرة.
قال في مقدمتها النثرية:-
نشأت بين أترابها لقيطة تتقاذفها الطرقات وعندما كبرت أصبحت حسناء المدينة, بادلها شاب وسيم الغرام وقضت معه أحلى الليالي فرأت فيه شاطئ الأمان ومع مر الأيام بدأ يشك في سلوكها بلا مبرر وأصبح يشتمها ويعيرها بأنها مومس بغي ويضربها فصممت على الانتقام منه ومن المجتمع في شخصه فطعنته في صدره بخنجر فمات...
وقد عقدت محكمة كبرى بحلفا الجديدة لمحاكمتها وكنت آنذاك رئيسا للمحكمة وبعد أن استمعنا لأقوال الشهود وقفت تلك الحسناء المتهمة وقالت مرافعتها دفاعاً عن نفسها بلغتها العامية فعربت المرافعة شعرا. قالت موجهة كلامها لرئيس المحكمة:-
مولايَ سامحني ولاتَعْتِبْ إذا ** ما خانني التعبيرُ يا مولايا
واغفِر إذا كَدَّرتُ ساحة عدلِنا ** بمقالٍ مشئؤمةٍ كصِبايا
ما ضَرَّ عالمنا إذا هو لم تكُن ** فيه قرابينٌ وفيه ضحايا
فَتَحْتُ عَينِي في الحَياةِ وَحيدَة** ما قادني فيها أبوايا
أنا لم أجد أمي تُهَدهِدُ مرقدي ** أو والدي حَمَلت يداهُ هدايا
أَنَا مَا لَعِبْتُ بِحُضْنِ أُمِي مَرةً ** ما شاهدت عيني أبي عينايا
عِشْتُ السِنِينَ طَويلةً وَعَرِيضَةً** في نَبعِ أحزانٍ وفيضِ رزايا
وشقيت من هجران أترابي وما** أحلاهمو من صبيةٍ وصبايا
في ملجأٍ قذِرٍ وأدتُ طُفولَتي ** وسكبتُ في الطُرُقاتِ نورَ صِبَايا
وُخُطَايَ في الأشواك ماعادتْ**على الدربِ العسيرِ كما عهدتُ خُطايا
دُنيايَ تشقيني وتكثِرُ لوعتي ** ماذا جنيتُ أنا على دُنيايا
حتى التقيتُ به وسيماً ساحِراً ** فجَعَلتُه دون الذئابِ حِمايا
قد كنتُ أهواهُ وتهوى عينه ** عيني وتعشقُ ثغره شَفتايا
هذا مُنى قلبي وكُنتُ غريرةً ** إن الأماني بعضهن منايا
بَعْضُ الرِجالِ وكان منهم ـ سيدي ـ ** تَخِذَ النساء موائداً وسبايا
قد كان يأتيني كَوَحَشٍ جائعٍ ** وينال مني الشيئ دون رضايا
وأنا على فمِهِ بَغيٌ مومِسٌ ** وأنا بناظِرِه نتاجُ خطايا
كلماته ظلت سعيراً في دمي ** نظراته أضحتْ مُدىً وشظايا
قد كان يسقيني الهوان وهذه ** صفعاته شهِدَتْ بها خدايا
حتى إذا حان القضاءُ ولم يعُد ** للصبرِ يا مولايَ أيُّ بقايا
أغمَدتُ خِنجَرَه بِصدرٍ طالما سَكِرتْ لِضَمةِ زندِهِ نهدايا
مولايَ سامحني ولاتَعْتِبْ إذا ** ما خانني التعبيرُ يا مولايا
واغفِر إذا كَدَّرتُ ساحة عدلِنا ** بمقالٍ مشئؤمةٍ كصِبايا
هذي هي الأقدارُ هل لي حِيلةٌ ** إن طاوعَتْ أقدارَهُنَّ يدايا
أنا لست ُ مُذنِبةً ولستُ بريئةً ** فاحكُم ونفِذ ما ترى مولايا
بعد استجواب المتهمة حررت المحكمة التهمة ووجهتها للمتهمة بالصياغة التالية:
(تتهمك هذه المحكمة بأنك وفي تاريخ 14\7\1968م قمت بقتل المجني عليه هشام عبد الحميد أحمد عمداً عن طريق طعنه بالخنجر المعروض بصدره وبذلك تكوني قد خالفت نص المادة 251 من قانون العقوبات السوداني), ما هو ردك على التهمة؟, مذنبة أم غير مذنبة؟.
نهض الأستاذ الهادي سليم المحامي متصدياً للرد على التهمة نيابة عن موكلته قائلاً: (موكلتي غير مذنبة تحت نص المادة 251 من قانون العقوبات وأن قتلها للمجني عليه كان نتاجاً لمعركة مفاجئة وان إدانتها تبعاً لذلك يجب أن تكون القتل الجنائي وليس القتل العمد, كما تقرر المادة 253 من ذات القانون).
ثم طلب المحامي بالسماح له بتقديم شهود الدفاع فجاءت إلى منصة الشهادة السيدة عواطف عباس أحمد التي كانت تشرف على ملجأ الأيتام ومن بعدها السيدة سكينة أحمد إبراهيم وأدليتا بأقوالهما وأبانتا حقيقة ما عانته نبيلة في حياتها وأضاءتا جوانب شخصيتها ومن ثم جاء للشهادة كل من خضر الماحي إسماعيل أحد العمال بمصنع السكر حيث كانت تعمل نبيلة فيه لبعض الوقت, واستمعت المحكمة لشهادة أحمد إسماعيل عبد الكريم الذي زامل المجني عليه بمحلج القطن وأوضح هذا الشاهد ما كان يرويه له المجني عليه وكيف أنه تعذب في حبها وهواها حتى أنه كان يضطر أحياناً إلى اغتصابها.
قفلت قضية الدفاع وطلبت المحكمة من هيئتي الاتهام والدفاع بتقديم المرافعات النهائية في الجلسة التالية التي انتهى فيها الاتهام في مرافعته مطالباً بإدانة نبيلة تحت طائلة المادة 251 من قانون العقوبات السوداني وتوقيع أقصى العقوبة عليها وهي الإعدام شنقاً حتى الموت بينما طالب الدفاع في مرافعته بإدانة المتهمة بالقتل الجنائي لا العمد وأخذها لأقصى درجات الرأفة والرحمة. أصبح ملف القضية صالحاً للحكم فيه وحددت الحكمة جلسة 18\9\1968م موعداً للنطق بالحكم وكان هذا اليوم يوماً مشهوداً في تاريخ محاكم مدينة حلفا الجديدة, وأخذ الجمهور يتوافد إلى مباني المحكمة منذ السادسة صباحاً وعندما تم فتح قاعة المحكمة عن التاسعة صباحاً امتلأت عن آخرها في وقت وجيز ولم يجد البعض موقعه إلا تزاحماً على النوافذ فلا مكان لموضع قدم داخل القاعة, في العاشرة تماماً اعتلت هيئة المحكمة الكبرى منصة القاعة ووقف الحاضرون قبل أن يستوي القضاة على مقاعدهم وعندها طلب رئيس المحكمة من الحاضرين أن يتفضلوا بالجلوس وأن يلتزموا الهدوء, فساد القاعة صمت عميق إلا من تهدج الأنفاس وصوت الأوراق التي كان يقلبها رئيس المحكمة وبدأت نبيلة بقفص الاتهام يلفها الترقب والتوتر وبدأ رئيس المحكم في تلاوة حيثيات القرار.
بسم الله الرحمن الرحيم
محكمة حلفا الجديدة الكبرى
حيثيات الحكم في القضية رقم 95 لسنة 1968م
محاكمة المتهمة: نبيلة توفيق صالح
المادة: 251 عقوبات
هذه القضية التي نحن بصدد إصدار حكم فيها اليوم تنبئ عن جريمة قتل غير أن ما صاحبها من تفاصيل سابقة تفصح عن قضايا اجتماعية وأخلاقية خطيرة لا نود أن تسود مجتمعنا الذي يحمل قيما نبيلة وجبل على مكارم الأخلاق فالوقوع في براثن الزنا والرذيلة يجب أن يحارب, ففيهما مكامن كثيرة للخطر وأن دعم المؤسسات التربوية كالملاجئ وغيرها والاهتمام بها هو واجب أخلاقي يجب الأخذ به, وأن رفد قيمة التكافل الاجتماعي باعتباره موروثاً أخلاقيا وإنسانيا يجب الحفاظ عليه , نقول ذلك ونحن نعلم أن هنالك العديد من الجهات الأهلية والرسمية يقع عليها عبء صيانة تقاليد المجتمع وتنقية قيمه, على أننا نشير إلى ذلك باعتبار أن هذه القضية استحوذت اهتمام الرأي العام استحواذاً ملحوظاً ويجب ألا ننكر واجبنا القضائي الذي يهدف ضمن ما يهدف إلى ردع كل من تسول له نفسه مخالفة القانون بالعقوبة التي تعود به فرداً صالحاً للمجتمع و إذا ما وقعنا عقوبة استئصاليه كالإعدام فإن في ذلك عبرة وعظة للآخرين, قال تعالى (ولكم في القصاص حيوة يا أولي الألباب), وبذلك نسير بطريق النجاح للحد من الجرائم الخطيرة كجرائم القتل.
نعود الآن إلى قضيتنا الماثلة وهي كقضية جنائية خلت من التعقيد فوقائعها واضحة ولكن لابد من تحليل هذه الوقائع تحليلا قانونيا سليما لنصل إلى القرار الصائب حولها, فقد انحصرت وقائع هذه القضية بأنه وبتاريخ 14\7\1968م حضرت المتهمة لمركز بوليس حلفا معترفة بارتكابها جريمة قتل في حق المجني عليه هشام عبد الحميد أحمد وبعد الإجراءات اللازمة التي اتخذها البوليس تحت إشراف القاضي المختص رفعت إلينا الأوراق من قاضي الإحالة ومن ثم بدأت إجراءات هذه المحاكمة وبعد الانتهاء من قضيتي الاتهام والدفاع توصلت المحكمة للحقائق التالية:
أولاً: إن المتهمة ودون سواها هي التي قامت بقتل المجني عليه وذلك ثابت باعترافها القضائي والذي أقرت به أمام هذه المحكمة مقروءا مع بقية الأدلة التي قدمها الاتهام.
ثانياً: المتهمة كانت تعلم أن الموت هو النتيجة الراجحة وليس المحتملة لفعلها إذ إن توجيه ضربة نافذة بآلة حادة إلى القلب كما أبان التقرير الطبي لابد أن تكون قاتلة.
ثالثاً: إن واقعة القتل في قضيتنا هذه حدثت في غرفة داخل منزل ليس فيه سوى القاتلة والمقتول, عليه فإن ما حدث يشهد عليه شخص وحيد وهي القاتلة ولم نجد شيئا يعارض روايتها للأحداث عليه سنأخذ بما جاء في أقوالها باعتبارها الشاهدة الوحيدة لما حدث في تلك الغرفة.
رابعاً: نقرر وبكل اطمئنان قيام الركن المادي لجريمة القتل العمد. والآن يثور تساؤل آخر هل تستفيد المتهمة من أي من الاستثناءات الواردة بالمادة 249 من قانون العقوبات لتنزل بنوع جريمتها من القتل العمد إلى القتل الجنائي. دفع محامي الدفاع بالمعركة المفاجئة وهي إحدى الاستثناءات الواردة بالمادة المذكورة التي تنزل بدرجة القتل العمد إلى درجة القتل الجنائي, وقد بحثنا هذا الدفع على ضوء وقائع الجريمة فوجدنا أنه لا يمكن للمتهمة أن تستفيد من هذا الدفع ولا يمكن أن ينطبق عليها حسب وقائع الجريمة الثابتة, فهذا الاستثناء الذي ورد بالمادة 249 من قانون العقوبات يشترط لانطباقه عدم استغلال المتهم لظروف المعركة المفاجئة من حيث تناسب الأسلحة والسلوك غير العادي أو القاسي, فالمتهمة استغلت ظرفا غير متاح للمجني عليه الذي كان اعزلاً وان سلوكها كان قاسياً على النحو الذي أفصحت عنه الوقائع وقد رأينا ونحن نستبعد هذا الدفع أن ندرس ما تبقى من الاستثناءات الواردة في المادة المذكورة وقد استبعدنا كافة الاستثناءات الواردة لعدم انطباقها والجدير بالدراسة هما استثناءان مما ورد في المادة 249 وهما تجاوز حدود الدفاع الشرعي والاستفزاز الشديد المفاجئ, وبعد تمحيصنا للوقائع وضح لنا أن المتهمة لم تكن في حالة دفاع شرعي عن النفس وان ما سلكه المجني عليه تجاهها لا يرقى لدرجة التخوف على حياتها منه أو الأذى الجسيم, والآن نناقش استثناء الاستفزاز الشديد المفاجئ والذي يشترط لانطباقه إتحاد عنصري الشدة والمفاجئة وأن العبرة في الإثارة الفجائية ليس بنوع الموقف أو تفاصيله ولكن العبرة بالمشاعر التي يولدها الموقف والمشهد المحيط به في نفس المتهم وبتكاتف الظروف الكافية لجعل الشخص العادي يفقد توازنه وقدرته على ضبط أعصابه كما أن الاستفزازات السابقة تولد ما يسمى بالاستفزازات المتراكمة وهي التي تجعل المتهم في حالة غليان قابل للانفجار لدى أدنى استفزاز يمسه من الشخص الذي تسبب في ذلك التراكم. كما أن ليس على المتهم إثبات دفع الاستفزاز الشديد المفاجئ وراء مرحلة الشك المعقول بل يكفي أن تنشأ الظروف والملابسات والقرائن التي ترجح صحة روايته. وقد ثبت لنا أن المجني عليه في ليلة الحادث وجه إساءات بذيئة إلى المتهمة ألحقها بصفعات على وجهها مما نعده استفزازا شديدا و مفاجئا وفقا للقانون وما جرى عليه القضاء, هذا فضلا عن أن الاستفزاز كان متراكما عليه نقرر استفادة المتهمة من الاستثناء الأول الوارد في المادة 249 من قانون العقوبات وأن القتل قد حدث نتيجة لهذا الاستفزاز.
عليه نقرر إدانة المتهمة تحت المادة 253 من قانون العقوبات. طلبت المحكمة من الاتهام والدفاع تقديم ما لديهم من أسباب مخففة للعقوبة, فاكتفى الاتهام بالقول بان المتهمة ارتكبت الجريمة بقسوة وفظاعة لذا تستحق اشد العقوبة المنصوص عليها تحت المادة 253 وهي السجن المؤبد بينما ذكر الدفاع أسبابه المخففة وهي خلو صحيفة المدانة من أي سوابق قضائية وصغر سنها وما واجهته من قسوة الحياة ومرارتها وسلوكها النبيل وهي تسلم نفسها للسلطات بعد الحادث مباشرة.
رفعت الجلسة للمداولة حول إصدار العقوبة المناسبة وعادت المحكمة للانعقاد في ذات اليوم وأصدرت حكمها بإجماع آراء أعضائها على المدانة نبيلة توفيق صالح بالسجن لمدة ثلاث سنوات من تاريخ دخولها الحراسة في 14\7\1968م.
استقبل أغلب الحاضرين الحكم بالتهليل والتكبير وصرخوا بحياة العدالة بينما خرج البعض غاضبا وغير راض على هذا الحكم واعتبره مخففا. وجدت نبيلة نفسها بين أحضان الحاجة سكينة قبل أن ينتزعها الحرس ويتوجه بها نحو السجن. قضت نبيلة ما تبقى لها من عقوبة السجن بعد أن تم إلغاء ربع العقوبة بواسطة سلطات السجن لحسن سيرها وسلوكها, وعادت وهي تحاول الاندماج في المجتمع وقد صممت أن تعيش عيش الشريفات العفيفات ولكن ذات مساء وجدوا جثتها ملقي بها بجوار المصنع وفي جسدها أكثر من عشرة طعنات عنيفة.
إنتهى...
أسعد الطيب العباسي