مادلين أُنثى الأبنوس
إلى سلمون غوردون الذي تسكنه الفاجعة حتي اليوم..
قالت لي:
إن الإنتقال من عالم إ إلى آخر أو ما يُعرف بـ"موت" لو يقدَّر لنا مجابهته رفضاً لمات وهو نُطفة أو لصار الآن كسيحاً دون أدنى شك. تأوّهت ثُم نهضت من المقعد تراجعت وهي تتجه نحو المطبخ لتأتي لي بكوب الشاي بعد حوار شيْق عن المسيحية والإسلام والوطن والوحدة والحب والناس..
كانت واثقة تماماً أن الجنوب سينفصل وسيصبح دولة أُخري والمسألة فقط مسألة وقت لا أكثر ولا أقل ولكنها تتمني الّا يحدث ذلك وهي تقول لي أين ساجد بطة وأطفال خليل مطر والصديقات الجميلات: إبتسام عمر، حواء، وندى وحتي أنت أيها "الشين".. الدين عندها ليس سبباً للتفرقة والشتات.. والحب لديها أن تكون متسامحاً ولو مع عدوك.. لا تؤمن بماركس ولا هيغل تري أن أعظم الناس هو من وهب حياته للرب.. مادلين كانت نجمة الحى بل المدينة بأسرها لونها الكاكاوي لم يمن الله به لواحدة أخرى من فتيات البلاد وقوامها الممشوق كهيئة أشجار التك يدخل الغيرة والحقد أحياناً في نفوس الأخريات.. تتقن العربية أكثر من لغتها.. رشيقة شاخصة البصر نافرة الصدر. كانت تقطن بالبركس الحي العمالي حين كان والدها في الخدمة المدنية ذلك الحي الذي كان يحتضن نصف جميلات المنطقة أو يزيد.. لم تتجرأ إحداهن نحوها مطلقاً حين كان "الجنوبي" دون لأنه ليست للمقارنة من مكان حيث الجمال تفوقهن والأدب كذلك.
في ذات سنة ما سخي الله لسكان الحلة بنور قادم من البركس الحي الحكومي العمالي ذو المسحة البرجوازية الخفيفة حيث أحيل والدها المهندس غوردون إلى المعاش بعد خدمة طويلة ونظيفة كذلك كانت خياراته أن بنى منزلاً في "كمبو مجان" الذي سمي لاحقاً بحى السلام.. كان المنزل يؤكد الذوق الرفيع لسكانه بدءً من التصميم الذي هو الأول من نوعه في الحلة مروراً بنوع الأثاث الفخم الذي تخلو كثير من بيوتات الحلة من مثله حيث كان المنزل يتكون من إثنان من الغرف ومقابل كل غرفة هول بمساحة كبيرة تسمح لأن يجلس طقم الجلوس بشكل ملائكي وباقات الورد تحتل الأركان في منظر بديع يدخل البهجة في نفوس الضيوف.
قلت: أنا أفهم ذلك ولكن لماذا حديث الموت يا مادلين؟
أضافت بلهجة سودانية:
طولة لسانك بتحسسني انو موتك قريب.
ذلك آخر ما دار بيننا في آخر منحة للقدر في ذات نهار أكتوبري بسماء مدينة سكر حلفا ج وأنا حزمت أمتعي لأتحرك بعد سويعات قليلة إلى العاصمة.
أظن أن الموت كان جباناً لم يواجه أنثى الأبنوس صراحة، لم يقل لها جئت أو سأتي لأخذ روحك بل كان مخادعاً، يقُل لها: إن طويلي اللسان قد دنا موتهم أما أنت يا وسيمة الروح يا خادمة العذراء لا عليك أنثري للناس المسرة والفرح.. تهيئي لقداس الأحد الكبير.. أبهري المصلين لأن صوتك "السوبرانو" يدخل السكينة في النفوس ويشجي القلوب.. رنمي يا أيتها البتول.. لم أهتم كثيراً بحديثها لأني دائماً أقول لنفسي إن الموت سنة الحياة وفي الموت ختام للأمنيات المرهقة.. أجدني مهيئاً له ولعلي عاشق متطرف تسكنني فتاة سادية.. بالطبع كان الموت يبدو جميلاً في نظري أو رؤوفاً.
الآن ها أنا قد غادرت سكر حلفا محملاً بدعوات جدتي وتحذيراتها "يا وليدي كلام سياسة دي خلي في خرتوم دي بكتلوك وللاي".. وعلي موعد مع أصدقاء الجامعة هيمو، بكري، سمية، سلمى، عبير، معتصم، صفاء، ونجاح "ستهم" كما يحلو لنا أن نطلق عليها هذا الاسم.. هي فتاة جميلة، صفراء اللون، متقدة الذهن، لم تفارق البسمة محياها كما الجوكندا تنحدر من إحدى قرى الجزيرة، مشبعة بروح عفوية شفافة حد الإنثيال.. لم يمن الله لها بطول مثل صفاء بنت خميس جلدقون لاعب كرة السلة الشهير حنونة نظنها أم أحياناً وبالفعل كانت قاب قوسين أو أدنى لأن تكون، فهي ما نشكو لها كل خيباتنا المالية منها والعاطفية كذلك.. ما من أحد إلا ويحبها.. إنها (نص مفقود)..
إنتظمت في دراستي بالطبع، وكنت شغوفاً وولها بالعمل العام وكنت في فراغي أعمل متدرباً في أحد الصحف المناوئة للنظام.. لقد أمضيت الآن ما يقارب الأربعة أشهر ونيف منذ قدومي من سكر حلفا والخرطوم ها هى مثلما تركتها بضجيجها وشمسها الحارقة ونفاقها المنثور في صحفها مع كل صباح وشاهق بنايات أوليجاركيتها المتلصصة والفضولية، منتصبة كذكر منتشي في توهانه وموطنه الأذلي..
جاء فبراير بقامته المدببة والقصيرة في هذا العام كان قاسياً كقساوة هتلر مع اليهود أو جندي شجاع في ساحة حرب كان قاتماً كذلك كان ثقيلاً كصخرة سيزيف.
خرجت من مكاتب الصحيفة نحو الخامسة مساء بلا وجهة محددة.. رحت أجرجر قدماى نحو الطريق العام لإستقل أقرب بص يلفظني في السوق الكبير لكن المفاجأة كانت أكبر وأغرب.. ولعل فبراير صار مثل أبريل وأكتوبر في السودان أشهرا تهابها الأنظمة.. كانت الخرطوم تغلي بسخانة الهتافات الداوية التي إنطلقت من أماكن متفرقة من الجامعات والأسواق والميادين والأحياء منددة بحزمة السياسات الاقتصادية التي دشنتها الحكومة مطلع الأسبوع الماضي.
ثلاثة خطوات أو أربع.. هى المسافة التي تفصلني عن الطريق العام.. في الناحية المقابلة لي تقف شخصيات لم أراها هنا ولعل اليوم كان مضن وشاق لم أفكر مطلقاً بأن هؤلاء يقصدوني وكل من يخرج من هذا المبني إنهم رباطة المصطلح الذي أطلق لهؤلاء مؤخراً الحركة السياسية زاخرة بأدبياتها ومصطلحاتها التي تولد مع كل حدث رن الهاتف وتقلصت المسافة بيني وهؤلاء بمقدار زفرة أو شهقة قل ومن حيث لا أحتسب كانوا أكثر من ست أشخاص داهموني من نواح القبل الأربع في مشهد مرعب لا يصدق أن يحدث مثله في مدينة وكان بقيتهم من ناحية أخري ممسكين بأسلحتهم الرشاشة يتصايحون.. جيبو هنا جيبو هنا.. كأنما عثرو علي جيفار آخر.. مثلي لا يهاب الموت طالما تسكنني فتاة سادية وطالما كنت علي يقين بأن أنظمتنا العربية والأفريقية تطلب مناطحتها الروح وطالما في حضرة الوطن سيصبح الغالي والنفيس أرخص.. هنيئاً لي بالموت أو هنيئاً له بي.. ألقى بي في صندوق عربة ميتسوبيتشي.. سقط على ظهر آخر سبقني إلى هنا.. لم تمضي سواء دقائق إلا وكانت العربة مليئة بكل طاقم الصحيفة محرريها ومصححيها ومصمميها وإداريها.. كلهم كانوا بمعيتي.. تحركت بنا العربة بسرعة تفوق الخيال وكنا معصوبي العيون.. رؤسنا تحت أحذيتهم.. لم ندري أين الوجهة؟ توقفت العربة وكان الظلام قد حل في ذلك المكان الذي نجهله ولكن بعد لحظات من الضرب والسب تم وضعنا في مكان متسخ لحد ما فسيح كذلك لحد تشكل أرضيته البلاط سقفه من مادة الاسبيستوس.. يأوي قرابة المئة ويزيد من الناس.. في بوابته يقف عدد من الجنود مدججين بأسلحة لا نعرفها.. كانت أعمارهم تتراوح ما بين الثامنة عشر والعشرون.. شباب وجوههم تعبة منهكة. قال احدهم: "الفورة مية"، وهي صيغة تعني التحدي ثم صرخ آخر الليلة بتشوفو الويل.. لقد أصبحت الصورة الآن واضحة.. إننا في قبضة الأمن.. كنا لا ندري إلى أين نحن ذاهبون حين تم إختطافنا في منتصف الليل؟ ومع إشتداد البرد بدأت التحريات وهى عبارة عن أسئلة بسيطة وسخيفة في آن واحد وكانت مخللة بالعنف المفرط. لم يألو أحدنا كم سنمكث هنا.. كلهم تهيأ لأطول فترة، ويقول أحدنا وصل التطرف إلى أن يريد في ذات الوقت أن يعرف هل سيعدموننا شنقاً أم رمياً بالرصاص أم تحت التعذيب مثلما فعلوا بالدكتور علي فضل الذي غرسوا في رأسه ربما مسماراً.. الآن جزءً مما جاء في تقرير الطبيب الشرعي فتح في الرأس يقدر بحوالى ستة بوصات أو مثلما فعلوا بشهداء رمضان الذين ضاعت حتي وصاياهم وقبورهم في المجهول.. المعتقلين الذين سبقونا إلى من معظهم من الطلاب وبعض الكهول؛ منهم قيادات سياسية، ومنهم من عامة الجماهير، جاء بهم السخط حيث إمتلأت بهم السجون والمعتقلات.. لا شيء يفضح طبيعة أي دولة أكثر من سجونها، كما يقول تولستوي، في هذه البلاد لدينا كوبر وشالا ودبك سجون تحتل الليل هنا الكل يتحسسه شهراً وأعواماً ربما سأمضي وقتاً طويلاً أو ربما يكون مصيري مثل الشاعر أبوذر الغفاري الذي غاب عنا منذ ثلاتة وعشرون عاماً لا ندري له مكان.. أهل أعتقل أم أغتيل؟ هل أختطف مثلنا؟ ولعل ليس هناك ما يشير لتورط الأمن حتي الآن ظلت قضية اختفائه حبيسة المنابر الإسفيرية فقط ولكن مثلما يقول غارسيا لوركا "إن عظام الضحايا سوف تفضحهم".. إننا أيضا نقول سيأتي اليوم وتتكشف الحقائق.. الآن لقد أمضيت ورفاقي أسبوعان في هذا الجب.. في اليوم التالي أطلق سراح بعضنا بينما فضلت أنا وأربعة آخرون قيد الاعتقال.. استأنفت التحقيقات مجدداً وهي ذات الأسئلة السخيفة لماذا تغطي صحيفتكم المظاهرات وما مدي علاقاتكم بالمجموعات الشبابية التي تقود هذا الحراك؟ لم يستأنفوا الضرب هذه المرة بل تحولت معاملتهم من العنف إلى العنف النفسي من خلال أسئلة غير مهذبة وتفاصيل خاصة بالشخص.. بالطبع كانت الأخبار مقطوعة عنا تماماً نمت لحياتنا واستطالت الأظافر وصارت مثل مخالب الهرر وآخرون صارت أظافرهم مثل الحوافر أما أنا حين خرجت أذكر علق أحد الأصدقاء باني ربما أحد من أهل الكهف ضل طريقه إلى هنا. هدأت الخرطوم قليلاً لكن الجو العام يشوبه الحذر والواقع كان ينوء كاهله بأشياء لا تحمد عقباها النظام حشد كل جيوشه في الأسواق والميادن والمساجد ورجال الأمن بزييهم المدني متحكرين أما بائعات الشاي وبعضهم يعملون سائقي ركشات داخل الأحياء. خرجت في منتصف مارس أى بعد إنقضاء شهرا ونصف بشهوة منقطعة النظير إلى الحرية وحنين إلى الشارع وسكر حلفا ومادلين وشلة الجامعة تبغ الدقيل وابو خليل شوارع الحاج يوسف المواصلات سوق ستة.. الإنسان حين يكون بلا حرية هو في توق أبدي للأشياء لدرجة إنني كنت شره لسماع مناكفات كمساري الحافلات مع الركاب وزحمة المواصلات حتي قراءة اللافتات علي الشوارع وتلك العبارات المكتوبة خلف السيارات والركشات التي تمثل هواية للبعض كنت فرحاً كأنني عريس في زفته بل كنت عريس فعلاً لعل ما وجدته من تقدير كان أشبه بالأسطورة.. الكل يحتضنني كأنني أعتقلت لأجله شخصياً تلك تفاصيل أخرى كان وفاءً في أعلي قيمه.
أخذت هاتفي.. يأتي سلمون صوته متهدجا:
حمد لله علي السلامة..
تسلم يا صديقي.. صمت لمسافة بينما كنت أنا أتفقد أحواله لم يرق لي هذا الصمت لأن سلمون مثل شقيقته مادلين دائماً ما يتوقعون لي الموت وبذات المبرر الذي قالته لي مادلين في آخر لقاء بسكر حلفا الجديدة وكنت أعلم أن مناسبة كهذه فرصة له لمزيد من الشماته أقلاها كان يمكن أن يقول مثلما يردد دائماً: المرة الجاية ما حتفلت يا اخونا .. داهمته باسئلة كثيرة وكنت لا أنتظر أجابة وهو ما زال صامتاً.
سالته كيف مادلين؟
أنفجر باكياً.
ماذا حدث يا سلمون؟ يبكي..
رد لي آخر بلغة عربية كسيحة..
مادلين مات..
هكذا الموت أنه دائماً سباق ومباغتاً.. مادلين التي كانت تتوقع عمراً طويلاً أجملا.. ها هي تغادر دون إشعار.. كنت ملقياً في زنزانات الأمن السياسي كنت لقد أكملت الأسبوع الثاني من الاعتقال بينما هي كانت في يومها الأول متوسدة طوبة تحت التراب.
كل الذي أمامي صار اسوداً أو بلا لون. في اليوم التالي توشحت سوادي وكان الطريق إلى حلفا مثلما إلى قارة اخري..
كان حري بك أن ترحلي، لأن ما كان يؤرق مضجعك قد صار الآن حقيقة دون لبس:
ماما كاترينا وسلمون الآن صارا أجانب، واطفال خليل مطر الذين أحببتهم لا أدري أن كانوا سيغنون يوما والكريسماس في كمبو مجان صار كالمأتم إنطفأت أصوات النقاقير.. رحلوا الشلك والدينكا وكل التفاصيل الجميلة. لا شيء سواء صمت يخترق سوق السمك صباحاً ومساءً حتي الكنيسة الآن أصبحت كمبنى أثري لم يكتشفه أحد.. صمتت الأجراس وإهترأت الجدران وبهت لون طلائها كما المدينة في يوم رحيلك الذي كان بغتة وكان فاجعة كبري بالنسبة لي. ألقيت بحقيبتي الملئ بالأحزان أرضاً كأنما ألقي بكل همومي من علو شاهق. كان المساء قد حل وعناء السفر مازال عالق بي وأنا أتوسد ذلك التراب في مشهد غريب لم يحدث مثله أبداً.. كانوا المارة المرتجلون بجوار المقابر القوا بحملهم وأخذوا يتابعون الموقف بتوجس ودهشة.. صرخ أحدهم: بعااااااتي واللييييلة ثم ركض والكل كان خلفه..
بنغلور
23مارس
2013م