تشابه اسماء
صحوتُ مثلما أصحُو دائماً متاخِّراً نحو العاشرة والنصف صباحا.. لكن اليوم لم يكُن مِثل أيّام ألله ألباقِيات فهو يُنذِر بِشيٍءٍ خفيْ لا أدرُكه بِحواسي قلقْ وتوجُّس من مجهولٍ آت لم تكُن مشكلة البارحة في منزل نجيلة بائِعة العرقِي البلدي هي سبب ذلك لأنني أعلم أن هارون الدارفوري عامل الحصاد لا يذكُر شيئا من تفاصيل الّليلة السابقة فهو تتجسّد فيه مقولة السكَّاري تلك: كلام الّليل يمحُوهُ النهار وغير ذلك له قلبٌ حنونْ كان حينما يسكر يحدِّثنا عن أُمِّه التي هجرها وإخوته الّذين في أحد معسكرات اللجؤ وشقيقتُه الَّتي رُبّما الآن في شاد أو عاهرة في أحد المدن فهو مثلما يقول خرج من الفاشر في ألعام 2003م بعد إندلاع الشرارة الأولي للحرب الأهلية هناك كانت فكرته أن يأتي إلي دار سباه (صباح) ويعمل لِوقت حتَّي يحصُل علي بعض النُقود ويبني منزلاً ثمّ يأتي بِأُسرته ويستقر بهم المقام بعيداً عن دويْ الرُصاص ونحيح النار.. جاء إلي مدينة سكِّرحلفا الجديدة كما يحكي لنا بعد مُعاناة طويلة تراوحت ما بين الخوف والأمل .. في نقاط التفتيش كان يخشي أن يكون هُناك من الجُنود مِمن حفِظ شكلُهم وله معرِفة بهم عن قُرب فهو يعرف بعض من الذين كانوا في الهُجوم الأخير الذي إستهدف قريتِهم وفقد فيه والدُه ومتْجر صغير كان يَلبِّي بعْض حاجِيات ألقرية مثل ألسُّكِّر والزيْت والبُن والشاي وحِجار البطارية للراديوهات الموجودة في القرية حسب ما أخبرنا بِنفسِه كانت عبارة عن أربعْ راديوهات إحداها ِلِادُّومة وهو جهاز ماركة سونيو والآخر جهاز ماركة بانسونيك يُستخدم لِحفلات الحي في الأعراس ومراسم خِتان الأطفال يمتلكه أبَّكر الذي قضي نحو سنتان يعمل بائع للمياه في السوق ألشعبي أُمدرمان.. هارون رجُلاً طيباً وذو بنية قويَّة يخافه الجميع تشاجرنا سبب كُباية العرقي الأخيرة المتبقية للسيدة نجيلة.. أنا قلت سأدفع قيمة ألكُباية ضِعفاً مما جعل السيدة نجيله تفضلني عنه وذلك ما أغضبه.. تفحصت كل ما في حولي لم أجد شيء يفسر هذه الرهبة الصباحية والخوف الملبد في فضاء المجهول. كان لي أن استعيض بشيء يبدد خوفي ورهبتي.. قرأت المعوذتين.. هيئتي لا تقبل منه صلاة وبطبيعتي لا أحكي للناس مشاكلي.. نهضت من فراشي وعلي الارض بجانب حزائي المهترئ هناك كالعادة زجاجتان أحداهما فارغة والأخري لم تمس بعد ربما أحضرهما صديقي الحوت لا أدري لأن بالأمس وصل بي السكر أعلى تجلياته..
رن الهاتف وعلي الخط صوت غليظ تبدو علامات الخوف والارتباك ظاهرة وجلية في بحته:
مستفي الهقيني في جمائه ديرين بقبدوني نتو لي بهيتة هنا بيت انا هسي في شاري ترلات تئال دسيني اليك الله!!
هارون ياتو جماعة ديل؟
ديل ناس هكومة!!
لم أفهم شيئاً بالطبع. لكن سيطر علي غضب عارم وازدادت وتيرة خوفي.. فهارون الرجل الطيب لا يفهم في السياسة حتي يكون مطلوباً لأجهزة الحكومة، لا يملك سواء لسانه ومأساته التي يحكيها في جلسات الشراب حين يسكر هب انه كذلك فباي مبرر لهذه القوة أن تقتحم منزله بهذه الطريقة..؟ قلت لنفسي ربما هناك أشياء أنت لا تعرفها يا مصطفي وعليك أن تتحلي بالشجاعة ولو قليلا.
لبست قميصي الذي ما زالت رائحة العرقي تفوح منه.. أسرعت الخطى نحو شارع الترلات حيث يجلس هو بانتظاري هناك.
وجدته مذهولاً من هول الذي حدث وكنت أسمع نبضات قلبه عالياً بكل وضوح:
قلت له:
مالك يا هارون؟
قال لي: بالأمس لقد تلقيت مكالمة هاتفية من شخص مجهول يطلب مني مغادرة المدينة وأن لم أفعل ذلك فسوف يلقون بي خلف الشمس وحين استفسرت لماذا؟.. قال لي: أنت تتبع لأحد الحركات المسلحة في دارفور وجئت هنا لتأخذ بعض الدعم من قبيلة محددة بالمنطقة.
لقد ذهلت أنا أيضا.. فالمشكلة أكبر من طاقتي ولا أدري كيف أساعده أنا كنت أعلم ببعض تفاصيل الراهن السياسي في البلاد واحتمال كون هارون له نشاط سياسي أو عسكري بعيد جدا في تصوري، أولا لأنه منذ أن جاء إلى سكر حلفا يعمل بالحصاد ويسكن في كمبو الحصاد وهو مكان في الخلاء تعده إدارة مصنع السكر لإيواء الجنقو في الموسم الذي يتم فيه حصد محصول قصب السكر وعادة ما يبعد عن المدينة بكيلو ميترات وهارون ليس له أصحاب من تلك القبيلة المذكورة فهو ينتمي لقبيلة أخري أيضا ولم يستخدم هاتف إلا في هذا الشهر وأنا الذي كنت أعلمه طريقة إستخدامه وكنت شاهداً في الأسبوع الماضي حين تكفل بدفع ما شربه باكمبا من عرقي وكانجي مورو.. وحسب الإتفاق أن لم يدفع له باكمبا في هذا الاسبوع قيمة ما دفعه له سيعطيه الهاتف وبالفعل في الأسبوع التالي تعسر باكمبا في دفع المبلغ وما كان منه إلا أن يعطيه الموبايل ويقول له حلال عليك لكني لست بقدرات رجال الأمن والمخابرات لأعرف عمق الأشياء.
قلت له ماذا أفعل لك وأنت تعلم أنا لا حيلة لي مثلك؟ شعرت بضعف وخيبة جراء سؤالي!
قلت لنفسي قليل من الجرأة لا تقتل.
الي المنزل
إصطحبته معي إلى المنزل متخفياً بقميصي الذي البسته أياه وفضلت أنا أن ارتدي فلينتي الرياضية وهي ساترة في كل الاحوال.
قال لي: يخي ناس ديل قالو بكتلوني نسي شنو انا هني تسكرة ما اندي شان نسافر بو..
هارون الآن متربك لا يدري ما يقوله لي هو خارج وعيه تماماً بتأثيرات الخوف الأرجح لي أن أعطه قيمة تذكرة لأي منطقة يختارها لكني لا أضمن أن كان سوف سيصل فعلاً دون أن يلقوا القبض عليه.. لكني اذا أعطيته علي الأقل قد أكون ساعدته قليلاً.. ليس هناك وقت الآن لتفاصيل أكثر فهو لم يذكر لي سواء أنه خائف ولا يملك قيمة التذكرة التي تقله من مدينة الخوف والموت الجديدة هذه..
قلت له: كدي اهدي ياخ وانت زول جاي من حرب شفت الموت بي عينينك تخاف من شنو؟
أجاب بحسرة شديدة:
في هرب دي زول بلاقيك راجل لي راجل يا كتلاك يا كتلتيو اني وانخاف من موت لكن زول خانون وزالم دي نسي مئاو شنو؟
تاكدت لي شجاعته وحديثه لم يفارق المنطق هذه المرة. إتصلت بصديقي الحوت عله يجد مخرجاً لأ زمتنا هذه وكنت علي يقين بأن الحوت يفهم في السياسة وسبق أن تم إعتقاله وله خبرة في التخفي والهرب غير ذلك ينتمي لأكبر تنظيمات اليسار السوداني فتصبح المشكلة لديه الآن ذو جانبين؛ الأول ما يمليه عليه ضميره والآخر برامجي يرتبط بخط حزبه.. فهو حدثني ذات مرة أن لحزبهم تحركات لإيواء بعض الأسر الفارة من جحيم الحرب في دارفور وجبال النوبة وهم يعملون مع بعض المنظمات الانسانية لإنجاز هذا المشروع.
لم يتوان بعد ما أخبرته بالقصة.. عشرة دقائق بالضبط وكان معي بالمنزل.
قال: الآن لا وقت لنا لقد علمت من أحد أصدقاءنا الذي يعمل في الحكومة وضع الأخ هارون وهو يعلم بأنه برئ لكن مشكلته انه لا يستطيع أن ينسي مأساته.
قلت له لم أفهم!
أجابني بعنف: أنت أصلا ما بتفهم خلينا نأمن الزول دا أول..
قلت له: اها المطلوب شنو يا الحوت؟
سوف نرتب له مكاناً للإختفاء حتي الواحدة ليلاً ومنه سيغادر إلي قرية اسمها ريرة تقع شمال المنطقة تبعد حوالي اربعة عشر كيلوميترات، أيضا قال لي إن وجوده معي يشكل خطراً لأسرتي ولشخصي والأرجح أن يقوم هو بنفسه الآن ويأخذه إلى منزل صديقه طلحة.
لم يمضي كثيرا من الوقت ودبرنا له مبلغاً يوصله إلى حيث يريد وبينما كنا بمنزل طلحة ذلك الشخص النبيل تنحى الحوت جانبا وأجرى بعض الاتصالات بواسطة هاتفه المحمول يبدو أنه كان يتحدث مع بعض المنظمات لتصعيد القضية إذا ساءت الأحوال في غضون الساعات المقبلة كما فهمت حسب إشارات حديثه.
الآن كل من طلحة النبيل والحوت قررا تنفيذ خطة الهرب حيث في تمام الواحدة صباحا يأتيان بعربة بوكس ويقلانه إلى ريرة..
ها هى الشمس تمضي نحو مرقدها والمدينة بأسرها تتجه إلى طقوس ليلها وسكر حلفا الهادئة المطمئنة أصبحت في نظر هارون جحيماً آخراً وموت قادم من البعيد هو الذي دائما كان يتحاشى صوت الرصاص، يبكي لصراخ الأطفال، هرب من ويلات الحرب في قري الفاشر وحريقها عله يظفر بمكان بارد دافىء هادئ كاد أن يجد ضالته في هذه المدينة لكن ربما شرا مستطير أو قدرا ما ينتظره هنا.
بكي...
سمعته يبكي..
سمعته يتنهد..
قال لي والغيظ يعتصره: ها دنيا وللاي هس لو بقيت توربورا كان اخير نلقي لي تلتمية في شهر وبندقيتي في كتفي وهوان بقدر بسئليني مافي..
ثم استطرد: ها دنيا..
مرت اللحظات رتيبة مخللة بالخوف والقلق.. أنا شخص أحب الخمر كثيراً وأعشقه حد الجنون حتي قالت لي ذات يوم نجيلة: أنت فطموك بي مريسة ولا شنو؟
قلت لنفسي يجب أن أحضر زجاجة عرقي نتسلي بها أنا وهارون إلى أن يحين موعد الهرب وربما تخفف من توترنا قليلاً.. عرضت له فكرتي وبالتأكيد لم يرفض فهو يشبهني لدرجة التطابق في الشراب.. لكنه قال يريد أن يأكل أولاً.. تذكرت أيضا إننا لم نأكل شيئاً من الصبح.. أبلغنا طلحة الذي جاء لتوه ومعه الحوت وبدوره تحدث إلى زوجته التي لا تعلم بوجودنا في المنزل فاحضرت لنا الملوخية والكسرة أكلنا بشراهة حتي إنتفخت بطوننا.. أبدى هارون إعجابه بمهارة زوجة طلحة في الطبخ بكلمتين وشكر الله على النعمة هذه.. وتحركت بدوري إلى منزل نجيلة.. كان بالمنزل أناس التقيهم لأول مرة بعضهم يشرب بحرفية عالية وبعضهم واضح أنهم لأول مرة يحتسون العرقي البلدي.. تكشف لي من أحدهم كان يتقيأ بعيداً وفي وسطه طبنجة عيار 32م التي تدل بأن حاملها نظامي.. أبدت لي نجيلة قلقها من هؤلاء وقالت أنهم يتبعون لبوليس النظام العام وربما يريدون الإيقاع بها ذات يوم هي تفكر وفق مصالحها.. لكن الصورة واضحة أن لم يرحل هارون اليوم سوف يتأزم الوضع لاحقاً.. عدت إلى منزل طلحة النبيل وكانت الساعة تشير نحو الثامنة وخوف ابلغتهم بالمشهد وبكامل تفاصيله.. ربما إرتبك طلحة قليلاً لكن تدخل الحوت وأكد لنا لا شيئاً يدعو للقلق حتي الآن فقط ألا يبقى هارون هنا بعد اليوم. أرتشف كأساً ثم أخذ مكاناً نحو الزاوية البعيدة في الغرفة.. قال فيما يعني: أنه يريد سكيناً ولعل من محاسن العرقي البلدي أنك ترى نفسك لا غير، فهو يمنحك من الشجاعة ما يكفي للقتال.. لذلك يسميه المثقفون عصير الشجاعة.. إنفجر طلحة ضاحكاً بينما قال الحوت: دعوه يتجلى ها هو الآن تحول إلى صوفي بفعل كأس من الخمر والبلح العظيم . لحظات دراماتيكية انقضت ومع الكاس الاخير كان موعد الهرب جاءت العربة خرج الحوت لتمشيط المنطقة فهو دائما يفوقنا في الحرص والدقة لمعرفته باساليب الامن في الترصد وغيره
خرجنا وهارون والحوت بينما ظل طلحة في منزله ثلاثتنا ورابعنا كان الخوف .
ريرة
الطريق الي ريرة رغم وعورته الا انه جميل وخاصة في ذلك الوقت من الليل القمر يرسل اضواءا تدخل في نفوسنا فرحا ومحركات العربة تصدر اصواتا مموسقة مع ذلك السكون الليلي وروائح المائيات في الترع واصوات الضفادع القادمة من الخيران شكلت خمرة للخلاء الشاسع والفسيح
اقترب الصبح مع وصولنا لتلك القرية التي يقطنها الجوع والدرن وامراض عفي عنها الدهر استقبلنا رجل في العقد السادس من عمره طيبا حلو اللسان .
بالطبع لا كهرباء علي اضواء الحطب جلسنا ثم قدموا لنا الحليب والماء كل شئ مؤثث ببساطة القرويين وقلوبهم الشفافة والطيبة
تنحي ذلك الرجل ومعه الحوت بعيدا وتحدثا لمسافة ثم عادا مجددا ومنها غادرنا وظل هارون في ضيافة الرجل الذي لم اعرف اسمه
بلغنا سكر حلفا مع بزوغ الصباح مرهقان خلدنا في نوم عميق كل الاشياء عادة الي طبيعتها تبدد الخوف واستقرت قلوبنا في ذلك اليوم وكل منا عاد يزاول نشاطه اليومي
مضي اسبوعا كاملا ثم جاءنا خبرا مفاده ان السلطات القت القبض علي احد عناصر المعارضة المسلحة باحد القري الواقعة شمال المدينة وكانت الفاجعة ان ذلك الشخص هو هارون
في مساء الاول من يناير وتحديدا السابعة ونصف بينما كنت خارجا نحو السوق اذا بشخصان يحملان بنادق كلاشنكوف علي صهوة عربة تاتشر يشيران نحوي ثم يتحرك اخرا كان قابعا في مقدمة العربة ذو بطن متدلية يرتدي نظارة سوداء ليامرهم بالقاء القبض علي .
في الجب
وجدت نفسي بجانب هارون في بناية لا اعلم اين هي لكنها خارج مدينة سكر حلفا الجميلة مع كل صباح كانو يرمون لنا بقايا ما اكلوه في الليلة الماضية ثم استمر هذا المسلسل نحو شهرين دون اي تحريات . وفي ليلة ظلماء دخل علينا رجلا يبدو انه قادم من العاصمة يحمل بيده صورة لشخص لم نرى وجهه ويبدو ايضا انه يحمل رتبة علية حيث جميع الجنود اصطفو خلفه حتي ذلك الرجل ذو البطن المتدلية الذي امر بالقبض علي لم يتحدث الينا كثيرا لكنه امرهم باطلاق سراحنا فورا .
غصة
وضعنا في مؤخرة ذات العربة التي اقلتني في ذلك المساء ثم القو بنا في الخلاء وبينما كان الجندي يفك قيودنا وقبل ان يزيح القطعة السوداء من علي وجهينا تنهد ثم قال لصديقه الذي تسائل عن سبب القبض علينا :
تشابه اسماء .
انتهت