أثناء تجميعي للمعلومات والافادات المتعلقة بمأساة الشقيقين (عبد المنعم والغزالي) اللذين حبستهما والدتهما طيلة ثلاث عشرة سنة داخل المنزل بالثورة الحارة السابعة مقيدين بالسلاسل تكرر على مسامعي اسم أحد أقرب الأقربين إليهما ولأمهما.. اذ عاش معهما فترة طويلة داخل نفس المنزل الذي شهد المأساة التي أبكت كل من وقف على تفاصيلها المؤلمة، وعاصر طفولتهما لحظة بلحظة.. ويبدو ان الشقيقين كانا متعلقين به بدليل أن الشقيق الأكبر (عبد المنعم) عندما دخلت المنزل للمرة الثانية ضمن أفراد المباحث والشرطة الذين اقتحموا المنزل صباح الثلاثاء الماضي وحررت الشقيقين لحظت انه ظل يردد باستمرار ودون انقطاع عباراته غير المفهومة تارة بالعربية وتارة أخرى بالانجليزية (نابلسي.. نابلسي.. غزالي.. غزالي) .. وظل يردد اسمه حتى عندما تم ترحيلهما بالاسعاف الى مصحة كوبر مع شقيقه الأصغر ووالدته (نابلسي.. نابلسي).. فمن هو (نابلسي) هذا الذي تعلق به عبدالمنعم؟ أنه خال الشقيقين وكان يقيم معهما بالمنزل سنوات طويلة منذ ان كان في السابعة من عمره وغادره في الثالثة والعشرين من عمره ولذلك فهو يمثل جانباً مهماً في حياتهما.. التقيته وأجريت معه هذا الحوار لاستكشاف المزيد من المعلومات عن الشقيقين ووالدتهما واستكمال الحلقة المفقودة في نشأتهما الأولى قبل اصابتهما بالاعراض النفسية.. وفي اعتقادي ان المعلومات الواردة في سياق هذا الحوار ستساعد كثيراً الاختصاصيين النفسانيين المتابعين لحالة الشقيقين، اذ انها قد تمثل اضاءة لهم لمعرفة التاريخ المرضي لهما والظروف التي كانت تحيط بهما منذ نشأتهما الأولى.. كما أنها قد تكون خير معين للباحثين النفسانيين للتوغل داخل أغوار الشقيقين وصولا للعقدة النفسية التي أطاحت بعقليهما وذهبت بعقل والدتهما.. وأنوه أني اجريت معه الحوار الثلاثاء الموافق (28) سبتمبر الماضي نفس اليوم الذي نشرت فيه (الرأي العام) الحلقة الأولى التي كشفت عن مأساة الشقيقين (عبد المنعم والغزالي) حبيسي الاغلال طيلة الـ (13) عاماً كاملة، وقبل اقتحام شرطة ومباحث كرري والمهدية للمنزل بثلاث ساعات فقط. (النابلسي صالح المكي)، في الخامسة والخمسين من العمر.. هادئ الملامح.. مرهف الاحساس لدرجة انه لم ينقطع عن البكاء طيلة الحوار.. كان يعمل موظفاً بالحسابات بمؤسسة السكر بحلفا الجديدة عام 1980م وحالياً يعمل بسوق امدرمان اعمال حرة.
.....
سألته ما صلة القربى التي تجمعك بالشقيقين (عبد المنعم والغزالي) ووالدتهما (نادية)؟
أجاب: أنا خالهما، فوالدتهما نادية ابنة عمتي.. (نادية) كانت وحيدة والديها لا أخ ولا أخت وتزوجت صغيرة في الخامسة عشرة من عمرها تزوجت من مشرف تربوي من احدى مناطق جنوب الخرطوم، وانجبت (عبد المنعم) وعمرها (16) سنة وبعد سنتين انجبت (الغزالي).. (نادية) قبل زواجها عاشت حياة عز ودلال، وكان والدها ثرياً يعمل متعهداً للجيش والاتحاد الاشتراكي وكانت مدللة لكونها الوحيدة لدى والديها.. وعندما بلغ عمري ست سنوات تزوج والدي بامرأة أخرى على والدتي ولذلك رأى الأهل ان انتقل للعيش مع والدة نادية - عمتي شقيقة أبي.
وللحق والدة نادية ربتني جيداً واحسنت تربيتي .. وبعد ولادة نادية لابنها الاول (عبدالمنعم) تم نقل زوجها الى مدينة عطبرة، وكان عبد المنعم وقتها طفلاً رضيعاً عمره (6) أشهر فقط ، ولانها وحيدة لم يتحمل والداها مفارقتها فرفضا ذهابها مع زوجها الى عطبرة.. ورغم تكرار محاولة زوجها إلا انهما اصرا على الرفض، وبحبهما الشديد لها طلبا من زوجها طلاقها والسفر لوحده الى عطبرة، إلا انه رفض وتم رفع الأمر للمحكمة الشرعية واستمرت القضية خمس سنوات كاملة، وكان يحدث تلاق خلال هذه الفترة اثمرت ابنها (الثاني) (الغزالي) والذي اطلقت عليه هذا الاسم بنفسي على (الامام الغزالي) .. واخيراً تم الطلاق بواسطة المحكمة بعد (5) سنوات كاملة.
ولكن كيف أنجبت الغزالي وهناك اجراءات طلاق بالمحكمة أي انهما لا يلتقيان؟
- نادية كانت مكرهة على الطلاق، وليس بارادتها فقد كانت متعلقة بزوجها ولم تعتر حياتهما أية مشاكل تذكر تعصف بعش الزوجية.. وكما ذكرت لك ان اجراءات الطلاق طالت ولم يكن هناك انفصال حقيقي بينهما، بل افتراق وتلاق.
* هل كانت والدتهما (نادية) امرأة عادية أم تعاني من اعراض مرضية نفسية؟
- نادية كانت وديعة مثل (النسمة) جمال، واخلاق، وأدب.
* وكيف كان (عبدالمنعم) وشقيقه (الغزالي) في صغرهما؟-
بعد طلاق والدتهما، بلغا سن الدراسة فالتحقا بالمدرسة الابتدائية بالثورة الحارة السابعة، وكانا أذكياء ومتفوقين في الدراسة بدرجة شاذة .
* ما طبيعة ذلك التفوق؟
- عبد المنعم ظل الأول على زملائه منذ الصف الاول ابتدائي حتى جلوسه لامتحان الشهادة السودانية.. أما (الغزالي) فكان بين الأول والرابع حتى دخوله الجامعة وهذا يعود لذكائهما، ومجهودي ومجهود والدتهما، اذ كنا نراجع معهما الدروس، وعندما التحقا بالثانوي العام كنت بمثابة استاذهما الخاص بالمنزل.. وعند التحاقهما بالثانوي كنت ادرسهما اللغة الانجليزية ولذلك هما يتحدثان اللغة الانجليزية بطلاقة حتى أن (عبد المنعم) بعد مرضه يتحدث كثيراً بعبارات انجليزية.
* ما النسبة التي احرزاها في الشهادة السودانية؟
- احرزا نسبة فوق الـ (70%) وهي نسبة عالية ذلك الوقت اهلتهما لدخول جامعة الخرطوم (عبدالمنعم) التحق بكلية الهندسة المدنية، و(الغزالي) بكلية الزراعة جامعة الخرطوم.
* كيف كانت علاقتهما مع اقرانهما بالحي؟
- كانت عادية، إذ انهما كانا يميلان لاستذكار دروسهما اكثر من اللعب والخروج من المنزل، فلا يخرجان إلا نادراً.
* هل لاحظت عليهما أي ميل للعزلة، او التصرفات غير الطبيعة؟
- لا، فقط كانا هادئين يميلان للقراءة والتزود بالعلم.
* هل كانا يتعاطيان المخدرات «البنقو»؟
- لا.. فهما لم يتعاطيا المخدرات اطلاقاً.
* ذلك يعني انهما حتى التحاقهما بجامعة الخرطوم كانا عاديين وأصحاء؟
- أجل
* ومتى ظهرت عليهما الاعراض المرضية؟
-أصيب (عبدالمنعم) بالمرض النفسي بعد انتهاء السمستر الاول له بالجامعة، ولحق به شقيقه (الغزالي) في العام التالي، فاصيب بنفس المرض.
* ما طبيعة المرض الذي أصيبا به؟
- مرض نفسي، كما قلت لك.
* أقصد ما اعراضه؟
- كانا يتحدثان لوحدهما، ويخرجان من المنزل ويغيبان عنه لأيام.
* متى توفى والدهما قبل أم بعد اصابتهما بالاعراض النفسية؟
- والدهما توفى بالذبحة الصدرية عندما كان عبدالمنعم في الصف الثاني الثانوي، أي قبل مرضهما.
* ومتى توفى والدا (نادية) والدة الشقيقين؟
-والدة نادية توفيت سنة 1997م، ووالدها سنة 2004م ، فأصبحت نادية وحيدة بالمنزل مع ولديها المريضين.
* هل لديكم شخص من العائلة مصاب بمرض نفسي.. فقد يكون ما أصاب الشقيقين (عبدالمنعم والغزالي)، عاملاً وراثياً؟
- لا أعتقد ذلك، إلا أن خال (نادية)، وهو عمي وكان جزاراً بسوق امدرمان، وعندما كان عمره (17) سنة كان يعمل في استخراج الملح، فأصيب بمرض عصبي حسب تشخيص الدكتور (طه بعشر) وكان ذلك في الستينيات حيث ذكر(بعشر) في تشخصيه ان الملح تسبب في (نشاف) أعصابه.
* كيف كانت علاقتك مع الشقيقين (عبدالمنعم والغزالي)؟
- كنت أعاملهما كصديق او كالأخ الأكبر واصبحت لهما مثل والدهما بعد وفاته وكانا متعلقين بي.
* ولهذا ظل (عبد المنعم) يردد اسمك دائماً؟
- أجل انه يحبني كثيراً (أخذ يبكي هنا).