هُنَيْدَةُ مضت
تتشرب المساءات بدفء نقيء يتماثل مع تلك الأضواء التي تبدأ في الإختفاء من لوحة النهار الطويل لصيف لا يعرف الأفول يمتد لأكثر من نصف العام تقريبا.. حتى في الخريف البلد لا تعرف المطر فمطرها حر دافق كطلق شبورة دعك من صبنة تنعش صفق النخيل الأخضر وتغسله من غبار الأيام وبيوت العنكبوت ودروب النمل.
جدي كعادته يعود مع آذان المغرب ولا يحيد عن وقته قيد أنملة مهما غمر ساقية السورجاب شيء طارئ، فعنده الوقت لضرورة العبادة وما يتبعها من طقوس أخرى في بقية الليل ضمن صحو منامه القليل.
له طقس غريب يبدو موغلا في العصور القديمة ويتصل بحمام الأسلاف.. لا أعرف لماذا لا يستخدم الصابون؟ هل لقلة نوعه وقتذاك وندرته عموما؟
أعرف حجم حجرته الخاصة أو تحديداً مخزنه بالبيت والذي لا يشبه مخازنه الأخرى التي تغص بالغلال وأدوات الزراعة والخردوات والمبيدات الحشرية وغيرها من الاحتياجات الرئيسية التي لا بد أن تكون في يد كل الترابلة والتجار بالبلد.
وفي ذلك المخزن البيتي ترقد قطع من الصابون الأحمر الوافر، وهو نوع يصنع بمنطقة شندي، ويطلق علي مصنعه اسم الميزاب، وإن كان الصابون اسمه الحقيقي لا زال صابون الفنيك ذو الرائحة النفاذة التي تكاد أن تكوي عضلة القلب وأن تحرق أهاب الجلد البشري. ومع ذلك كان جدي زاهداً لدرجة في غاية التعقيد لا يمكن لك أن تعرف مستوى سرها مهما أجتهدت رغم أن مخزنه يعج بهدايا جمة تتشكل في مجموعات مختلفة من الملابس والأشياء الأخرى والمقدسة للحفظ فقط إلى قلبه خاصة الجلاليبُ الزاهية والتي لا يرتديها بتاتا سواء في فرح أو ترح فقط يتركها هكذا شريدة ووحيدة ويتيمة في فضاء غرفة المخزن الخاصة في البيت ربما تتمدد على عنقريبه الصغير أو الكراسي الخشبية بمحاذاة خزنته الحديدية.
هنالك سر ربما تعرفه أمي بت أحمد طه ولا أحد سواها.. سر معاداة جدي للصابون وحياة البذخ.. ويبدو أن الكيمياء سرُ لن يفك طلاسمه طالما فشل في إزالة البقع الدهنية والاتساخ الذي علق بجسد جدي أو حتى العرق الخفيف والنادر الذي ينزل من جبينه العابق برائحة الأسافل التي لا تتجاوز قدميه.. وهكذا كان يمضي في الطرقات وكأنه منقبا عن شيئا ما ضائعا، ولكنها الحيلة والتدثر برمال الطريق حتى لا يري ما يؤثم عينيه الطاهرتين.
هى الوحيدة التي تدري سر تلك الحياة الغامضة التي عاشها جدي على بساطة وتقشف نادر رغم سيداب التمور الذي يملأ كل أركان بيوته المتعددة هنا وهنالك.. وكان يكتفى بما هو أقل من الضروري في كل شيء.. زاهدا كأي مزارع لا يمرغ خضاره ومحصوله في وحول طمي الشهرة.. وكان منتبها لكل شيء يمر تحت رجليه بداية بتلك الديدان الصغيرة وليس انتهاءا بجيوش النمل التي تعبر كل اليوم بمشقة في سبيل أن تفوز بقبضة من حب البرسيم أو بقايا تمر الهبوب والسباق بينهما محتدما وسريعا.. وللنمل ورديته ودأب لا ينقطع في تحريز رزقه الحلال بالكيف الذي يروق له.
براحة يديه يدفع المبيد للأرض ليصون عرضها من النهش والهتك مثلما يبلغ أعالى التمر ليدفع بحصته محصنها من كل آفة وجبار وصعلوق يرخي حلقه لحق الناس.. وفي قرارة نفسه هو شريك فقط في ثمار وهبها الله تعالى للبعض كرزق نزل من السماء، وبذلك يعكف نشطا في عمارة الأرض في كل أيام العام، وتزداد الوتيرة بمتوالية هندسية عند حلول مواسم الحصاد.. لا راحة يعرف ولا طعام ينشده.. وبين هذا وذاك إرتضى تلك الحياة القاسية برحابة صدر يضيق فقط بالدسم من كل شيء حتى طعام الإِدَام يخلطه بالماء ليرققه على جسده وبذلك ينجو من التخمة وحب الدنيا.
شيئا ما كان يقتلني لمعرفة وسبر غور حياة جدي البسيطة وغير المكلفة رغم ثرائه وقتذاك إذ يعد من الميسورين بطبيعة الحال وسط أهل البلد عموما.. حاولت أن اتتبع مسالك تلك المفازات وفشلت وفي الطريق كان مثلي كثير من أهل البيت عاني تلك الصعوبات ومغزى هذا السلوك.
على النقيض من حياته المتصلة من دوامة العمل اليدوي عاش هنالك شباب تقتلهم سعة الوقت الليلي ويسعون بفعالية لقتل هذا الوقت في كل لحظة إذ يعدون أعمال جدي ضرب من حب المال وكنزه.
بالطبع لن تنمو الحبة ما لم تأكلها الأرض.. والحبة أيضا لن تخسر شيئاً غير أغلالها، وبذلك تضحي بجسدها لتبدأ حياة أخرى متسلسلة ومتسقة مع طبيعة الدنيا، وأظن جدي كان في ذات الطريق يصنع طريقاً مستقيماً للوصول لإناء الحلال.
وفي المساءات يبدأ الشباب في الاحتشاد منسربون من زقاقات الحلة كعادتهم على رمال القوز.. يتحلقون في دائرة، ومن خلالها يمارسون طقس ليلهم الصاخب على إيقاع الدليب.. يصارعون عوز أمنياتهم واحلامهم بالأغنيات الغرامية بينما يمضي جدي إلى صلاة العشاء بمسجد حلة قوز هندي الوحيد.. صلوات طقوسها طويلة لدرجه يمضي معها تقريبا الثلث الأول من الليل من كل يوم في حياته التي شهدنا جزءاً يسيراً منها.
طريق واحد يسلكه من وإلى البيت برفقة مصباحه الذي يحرص على تجديد حجارة بطاريته من دكان التعاون، وعصاته التي يتحسس بها دروب سمار القعدات على قوز الحلة كما يبدو من حنقه المستمر على تلك الجلسات الطويلة بعمق أنفاس الليل... بالكاد أن يرفع ناظريه ليرى مدى المسافة حتى يجد نفسه قبالة باب بيته.
في تلك الفترة يشتعل تكل خالتي بخيتة بنيران جريد التمر المتقدة من أجل إنجاز مهرجان فطير العشاء.. ولإنجاز ذلك لا بد من جريد يابس وهذا يحضر منذ وقت باكر وتجده على كيمان متفرقة ومتراصة أمام البيت جوار الحائط الذي يقع على شارع العربات كأنها جبانة تغرق في صمتها ووحدتها.
وفي هذه الاثناء يعلن جدي حضوره اللافت من صلاة العشاء بدقة واحدة ومسموعة لا تتكرر على باب الزنك الأخضر من عصاة يتوكأ عليها عند ذهابه لصلاتى العشاء والصبح، وأظن أنه يهش بها جملة المغنواتية الذين يصدعون ليل الحلة بصهيل الأغاني والصفقات الحارة ودقات الدليب والطنبور حتى الساعات الأولى من الصباح ربما يصادفهم شروق الشمس هنالك مع تلك الأصوات الجامحة صاحبة الدوي العالي الذي يسمعه القاطنون الجدد على أطراف الحلة خاصة تلك البيوت التي جاءت متأخرة تسعى إلى جوار مدرسة المهاجر.
بيت جدي كان بين تلك البيوت التي قيض الله لها أن تساهر ليلها على وقع أصوات ضليل وشلته.. وجدي يرصد ذلك جيدا بمقدار كبير عبر أذن صاغية وواعية لهذا الغثاء الذي يشق حلق البلد في كل يوم. أجل! عنده الغناء رجس من عمل الشيطان والعطالة.. لذا تجده في حرب ضروس مع الأربعون صعلوقا الذين يشعلون ليل البلد بالغناء والهجيج.
لا أعرف لجدي حربا غير هذه في البلد طالما النيل ماثلاً وغامراً للأرض بكل إريحية.. وفي تلك الحرب شهدت له الحلة جولات وصولات صامتة يعرفها شباب ذلك الوقت على قوز غنائهم الرملي المتدفق عند كل ليلة لا تنتهي بدقة على باب بيته.
تلك الدقة الأقرب إلى حالة التأكيد منها إلى العنف ما زال صداها عندي تباشير خير يأتي العشية كل يوم وأترقبها على عجل حتى لحظة الناس هذه.. دقة يستفيق معها الحضور داخل البيت وينتبهوا لخطوات جدي المتوسطة في إتزانها المعقول والتي لا تتمهل ولا تسرع في وقعها على رمل نورة النضيد.
ليس مغاليا ومتشددا فيما يجري داخل حوشه الرملي الواسع.. يوزع سلامه وينسرب بصمت إلى داخل حجرته. ومن ثم نسمع نداء يا بخيتة أو يا آمنة فقط محيلاً المكان إلى روح جديدة من التراتبية الملتزمة والصارمة فيما يخص جدول حياته، وبذلك ينهي يومه خارج البيت!
وما أن يضع عصاته ويخلع جلبابه حتى يكون البرش ممدا على بساط الأرض بجوار أبريقه الحديدي، ولحظات يمور المكان بإناء اللبن وطبق الفطير بسرعة فائقة.. عشاءا ملوكيا مهيبا وهنيئًا مريئا لم أر مثله في المتعة حتى يومنا هذا رغم تبدلات الأزمنة والأمكنة.
وهذه الحالة كانت مقياس لذلك الرخاء الذي يشد بيوت الحلة الوادعة ويطوي ليلها على سلام ومودة دون كلفة وضيق.. وأظنها هُنَيْدَةُ مضت كهُنَيْهَةٌ لن يجود الزمان بمثلها.