صُؤابة فالتة!
مزحة سمجة أن تصدق نداء العقل الخائب وسراب تلك الأمنيات التي صفعتها شيخوخة الزمن المتوالي على خدها الناضر.. كل الرجاءات والاحتمالات تموت في فجرها المخنوق برطوبة الموقف المخزي.. والمواقف كثيرة حينما تتلبد غيوم سوء الظن المغسولة بعطن اللزوجة والجسد.. والمسافات واحدة وملتبسة لا تستطيع معها الفكاك من سعال الطريق ولا غباره النافق على ساحل الانتظار والمواربة.
بالطبع نفتقد القدرة على إمتلاك السلطة القابضة والخانقة على قلب كل شيء، وهو ينبض بالتعب والرهق الفالت، وهذا ما نشعر به في مثل هذه الظروف الوقحة والمتقيحة، وكل الأوقات التي عرفنا فيها طعم الحياة الدسم وتذوقناها على عجالة.
سيتوقف قلبك يوما ما، وماذا أنت قائل لسيرورة الأشياء والذين يستنزفونك اللحظات بشبق مائع، والجسد والعلائق الانسانية رهن العبور كما نعرف.. هم لغيبوبتهم ورهانهم الخاسر على النسيان يتنصلون عن واجب العقل... يا لسذاجتهم وهروبهم صوب الظنون!
أن تضع حداً لخيول متاعبك وهي في مهدها هو المهم.. وهذا مايكفي! تلجمها وتكبحها كما تشتهي أنت وعصافيرك؛ الشقشقة، ليس كيفما يشاء الوضع، وموازنات حفيد سلالة نسل المسلول.
في لوح الوقت يمكن أن تُكتب عبارات بضة وصلبة في آن واحد بل رواية ماجدة وباهرة الوضوح وناصعة السرد في وصف الرمل وضيق التنفس وخواء الخائن والأجوف وحلوى النساء.
الوقت ليس للتلون واحتساء نبيذ الوجل ولا معبداً طريقه بالسير نحو الذات كما يظن ذلك وغيرهم. الحكايات طويلة وباهتة كلون تمر أبونا ومتعفنة ورعناء كالحسكنيت، وإن التصقت بفراء الثعلب.. والماكر في مصانعة خيبته وخبثه الفاضح، لا يدري بأن أرصاد القدر يتخطى بكل سهولة ورزانة وفي خطوات رشيقة أرنبة أنفه الراعفة بالمخاط والسوائل الكريهة وبعض الطين الذي خُلقنا منه.
وكلنا نعلم دهاء الثعلب وكيف يتخلص من البراغيث! هي قصة قديمة وظريفة تفصح عن ذكاء الثعلب وحيلته للتخلص من الطفيليات التي تغزو فرائه وتعيش على امتصاص دمه.. فالثعلب حين تدخل فرائه الثمين البراغيث يلجأ لحيلة في غاية الذكاء حيث ينزع بعض من شعيرات فرائه ويمسك بها في فمه، ثم ينزل بهدوء إلى الماء، وسرعان ما تهرب البراغيث فراراً إلى أعلى جسمه حيث الفراء جافاً فيهبط لأسفل الماء أكثر، وكلما غمر الماء جسمه صعدت البراغيث لأعلى وتتجمع في رأسه. وفى المرحلة الأخيرة يهبط لأسفل برأسه في الماء تاركاً أنفه والشعيرات الجافة التي مازال محتفظا بها في فمه، والتي تعتبر الملاذ الأخير للبراغيث، حينئذ يترك الثعلب قطعة الفراء المليئة بالبراغيث في الماء، ويخرج بعد أن يكون قد تخلص منها جميعاً.
ونحن ليس في مثل ذكاء الثعالب وأساليبها في حربها الضروس مع عوائل الطفيليات!
وفي حافة كل قدر نلتمس قذاراتنا ونستذكر لماذا فشلنا في تلبية نداء صغير من عابر وهبنا الصراحة؛ روشتة كافية لمحاصرة الداء. وفشلنا في الكثير ولكننا نحن بشر ليس زرقاء يمامة نسبر غور البعيد.. والبعيد كان قاتلا وهو ممتشقا سلاحا مسموما من لحاء شجر الفلوات وبعض موت قلبه الدامي ومؤخرته النتنة.
وسننقي ثوبنا وشعرنا من القمل والصئبان، وسنتأمل الوجوه الجديدة والعبارات التي تحاول الإقتراب بليونة، وظننا أن أرض الله واسعة.. والتجهم ليس مهنة وإن تفرد في بضاعة مزجاة!
وليس مهما أياً كانت الحبة الصغيرة.. قمل الرأس أم قمل الجسد أو قمل العانة طالما البرود صفة مشتركة.. وفي الإيذاء تتساوى الحشرات الضارة بمقدار ملمسها ولسعتها.. ومن يعفي الشعر الفاحم من صُؤابة فالتة!
ونعرف بأن الفلول بلا ذاكرة كعود البنبون اليابس.. وهكذا هم جنود المال والإله مولوخ في غياب وعيهم الأصفر ينحتون من مناهلهم مومياء لواقعهم، وهكذا يتسربون عميقاً في الجسد حتى يجدوا مستنقعاً يستروا به عورتهم أو كنيف مكتظ بالجنادب.
ومن يُفلِّي البرغوث.. نحن أم هم! هو ذلك المغلوب على شفير وعيه التناسلي وبعض مرق فطير وكريه الرائحة يدخره ليوم أسود كما يظن.. واليوم سيأتي من البعيد ومن ذات المسافة.
أجل.. لم تكن قصعتنا ذات يوم ولا حاضر هذه اللحظات المؤلمة مليئة بالدمامل، وما يسد شهوة البطن! أُمنا القروية أطعمتنا من يقين قمحها وأبينا الوقور لم يقتات من تراتيله ويخن ذاكرته.. وأيضا جدي كان بسيطاً في فراشه وملبسه وطعامه وغادر الدنيا ثرياً دون جشع.
وقدرنا أن نكتب عن عبث وعالم بذيء أرقط وبعض طفيلية بعيداً عن التبرير! وإن كنا عاجزون عن تفسير منطقي لسلوكه، ولماذا تنبت حشائش الغُل على حواف حقول الرزق الحلال.
وها مرة أخرى، قدرنا أن نكتب عن عقول قصيرة التيلة تظن أن خِطامُنا بيدها العاجزة للأسف حتى عن نظافة تغوطها.. وهل هم بالفعل آباء جدد يوظفون معطياتهم الرخوة في معطف صديء ومقزز حتى تخدم غثاء مآربهم.
ومن يظن أن الإشفاق مهم لبؤساء الإنسانية وزبدها ومالآت النظرة الضيقة لعيشهم الذليل وسلاح الوقاحة الذي يستخدمونه لجزء الأشجار العالية!
باطل ذلك الظن العقور لطالما عَقِيرته تضج بالصياح مثل عواء الذئب عندما ينهشه الجوع ومكابدة وجع الصيام الجبري وانتظار الفريسة.. عواء لا تفصلك عنه إلا خطوات الغافل المتسكعة وصوت الريح وبصاقه.
دعونا أن نسافر على طرقات سفر خلوي بعيد في أقاصي الروح بدلاً عن تلك الطرقعات المصطنعة التي تزين الأنامل.. رحلة في الذهاب والإياب نعود منها أقوياء حتى نتجرع مرارته ذلك الرحيل الغريب؛ لنشفى من ويلاته ومخاطره.
وفي السفر راحة وشفاء وطي لسراب الحلم الكثيف. وركض المضمار يبدأ بخطوة.. والطريق يصنعه المشي.
إذن لنجرب حتى نفيق من هذا الضيق الكافر وبعض اللصوص الذين يمشون بيننا في رداء الاستقامة، وجلباب شفيف يبرز دهن الأثداء.
ودعونا نغني من الكلام الطيب بعض حروف صبية لـ(جلال الدين الرومي):
ما تَعثرتُ ارتباكاً يا حَصى
أو جُنوحاً لاختصار الألف ميلْ
ليس ذنبي أنّ دربي ما استوى
كان ذنبي ثوب أحلامي الطّويل.!