حجر العطرون
وقتها كان سالم الزواري يخربش على جدران بلاد درب الترك ويزين بهمة ونشاط كل زقاق. لم يكن همه سِوَى الاستعانة بالنقوش الوطنية المستمدة من روث بهائمنا كما نسميها زبالة لكي توفر له مالاً وفيراً يعود به إلى بلاد الزوره التي تقع سابقاً في أسافل النهر، ومع تلك الزخومة يجمل البيوت بأبهى ما تجود به يديه الماهرتين. والبلد حينها خالية من بكتريا التراب التي تتناسل في الثانية الواحدة أكثر من مرة كما أن خليج النفط وقتها لم يعرف مثقافة الاغتراب والعقال.
ولم يهتم الزواري بشيء كثيرٍ بقدر اهتمامه المتعاظم بطقوس طعام الطيانة، وولعه المعروف بقدح الدبكر في ميقات حضوره المستديم. جادل وحاور قيزان الرمل وحفر التراب حتى احتفت به الحياة المدنية والمهنية كأمهر طياني شق طريقه مع تيار النهر لسهولة الانسياب نحو ريقان النخيل الوافرة الانتاج.
وفي طبعه خشونة وجفوة ناصعة البياض اكتسبها من صداقة الماء والتراب؛ ذينك أعظم الموجودات وما جادت به الحياة. وبهن أقلعت سفينة نوح إلى الجودي. وخيرت الأمم بين اثنين لا ثالث لهما؛ يابسة اعتصم بها البعض، وماء لا تزال أظافره تمضي بذات المهمة تنحت في تضاريس أحجار الكون.
ولكن عادل ود قسم الله على ذات ضفة النهر، كان يجيد الاستمتاع باللعب تحت نيمة جدي، لا لشيء إلا لكراهيته السافرة لمغازلة الطين وخبوبه الخورانُ.
وتحت أبط والده، يُجبر يومياً على استنشاق روائح وطعم زرائب حلة الكنيسة حتى يتدرب على ممارسة ذات المهنة، ومع ذلك يتعثر، ويغويه اللعب معنا على طرقعات الضمنة التي تخص جدنا على منضدته اللبنية اللون والمتينة الصنع حتى يوم الناس هذا.
هذا الروث الصلب غذته مياه كثيرة انسربت تجاه جدول درب الترك الهابط من حفير البلد الكبير. حمله الناس بكل سهولة صوب بيوتهم صباحاً ومساءً، في تنهيداتهم، واحلامهم وامانيهم من لدن جدنا ود المرين حتى عمال الطلب والامتيازات والحفير، وعادل أيضا لم يسلم من ذلك.
عمي يساله: يا ود قسم الله انت مالك نفسك مابية شغلة الطين دي، ولا خايف تتوسخ بالعفانة دي.. دحين فيها عيب!! يااخي الناس يجوها من محل حجر العطرون... يمشو بى رجلينن من حلة لي حلة أيام وشهور وسنوات.. وجمال العطرون مبارياهم محل ما عجنو ليهم طين ولا زبالة.
دا رزق حلال ومضمون مافيهو شك طالما الزول بقبض حقو أول باول.. لا أول شهر لا الماهية ما جات في البوستة.. ولا حش التمر ولا المصاريف ما رسلوها من بلاد فوق مع ود الكعين ولا القرض.. ولا جرو الناس مشو بى جاهوري جابو المواهي من مروي التطير عيشته! اسه اسمع كلامي دا كويس وابقى نجيض فشان ما تندم وتسف التراب.. اتوكل على الله وخت الرحمن في قلبك وشمر قميصك وبنطلونك ديل، ومن بكرة تعال لابسلك عراقي زى حق ابوك دا.. وإن داير المحركة ومصاقرة تربيزة الضمنة اماني ما واطاتك صبحت ومات غنايك، وعاد بتاكل من كوعك ولا من بوعك يا أغلف! يبقالي لحدي اسه ابوك ما طهرك عشان كدا تتدلع وتتضرع وتتفشق سااى ما عارف العيشة دي كيفنها..كدا التبنك.. اشوف سوات موس طهار شفخانة الكنيسة دي ما واستك وجيهتك تب!
يا عمي عيب الكلام دا... ياااخي انا مطهرني قت لك فوق دندهوب العجمي يوم جمعة وجابو الخليفة ود الازيرق يمدح ساااى لحدي ما صبت المطرة ورمت بيوت ناس ود شيخنا ونحن لسه نأكل في لقيمات أم الحسن بت خضر.
التضاد أيضا يحمله في نوعية اسمه الباذخ أيامئذ. وليس وحدها ميعة الطين الرطبة وهاربات الأيام المقذذة وقفت على أبوابه الهشة كما عراميس أسنانه المرمولة بالتنباك تتجاذبه بعيداً عن الضد واشباهه وهكذا جاء للدنيا.
لا يعرف له البعض حضوراً في المهاجر، ولا يتذكرون ود ابنعوف أو حمري أو عبد الوهاب أو عثمان سليمان أو على البهدير أو سليمان درو أو عثمان ابنعوف أو غيرهم من معلمي المدرسة، إتكأ على نيمة شمطاء أو غيداء ليس من المهم نضارتها، وغازل بها أرداف عادل بأعوادها اللينة أو الجافة.
رأيته لأول مرة مع أبيه يراكم من عمله تجربة لزجة كلزوجة الطين بتلك الناحية.. تجربة لا تتكرر البتة كالبصمة على أيادينا.. تموت من شدة طقس الريف الجديد وتفنى في العدم بين حجر الضانقيل ومكعبات الاسمنت. وتموت العراميس فجاءة بين شهقة الضوء والعتمة.
لا الطين سند فضاءاتها ولا الهواء الطلق أتاح لها حرية أن تتبول في عراء العشوائي، ولا حتى بين مساكن العسس.. جعلته الريقطاء يشتهي مُشك النزوح الممدد على قارعة الطريق كوجبة دسمة لذباب بلادي.. طالما القلب اتئد وانتقل من العبار إلى الكريستال كأعشى المدينة حينما اعتمر قلنسوته ومضى باتجاه ضل الضحى وحور شتول جدي بين حقول ساقية السورجاب.
وعادل لا يستجيب إلا لشغبنا المعهود وهو في كامل هندامه يتوكأ عصا التمرد وابيه من جوف قلبه المغلوب يتمرد، وهو الآخر يقود صفا يقدس الانتماء للبلد.. ومن جهة أخرى، حتى يتوفر له الأمان في أن يقفز على الأسوار ورؤوس بيوت الجالوص لوحده يباصر مِيزاب أوضة بت كرفس وقت أن دهمه خريف وتساب (تمانية وتمانين).. و(حيطة) بتول هى الأخرى في حيرتها تتبرج حتى أتي عليها قلاب القرض أو مداميك حيطة استاذ على البهدير الذي تزوج حديثاً حيث اقتطع جزءً من الديوان لفرحه الكبير بليلاه المطيرة.
والاحترام ماثل ومتبادل بين عشرة الطين الممهور بالكركي وتواقيع عرق الحمير حينما يقطعن المسافات وعلى ظهرهن قلايب التراب من حفرة دوم المهاجر صوب الفوقانية.
أسود اللون وامامه حمارة عرب الهواويير الغبشاء اللون.. وعادل ممتليء بالضحك.. ماء الحياة واكسجينها الرحب كمنقايات الفاجر يوم أن تشرف أحد وخميس سوق القرير، وإن بعدت لا تتجاوز ثلاثاء تنقاسي، وشيخي بشير ينتظرها على شغف عجول حتى يسند جوعه الباكر لأنس وكلمات جريئة يخاف من جسارتها كل الجزارين والخضرجية.
وعادل لا يقاطع عمي بتاتا وكل حيلته تتموضع في صمته وضحكاته الهستيرية التي لا تنقطع كحال هياج العراجين والجنون ولمة بطان الحلة حول جعارين ودناين شجرة سنط واطة حموري.
دوري ما جاء!
اللمشي اشرب لي موية صاقطة من المزيرة داب يجي دوري.
المرة دي كان ما رميت ليك البلاطة في طرفك يا القحف عاد احلق شنبي دا وامشي اغسل العدة لى امي.
نان ما هريت يا عادل الليلة..!!
عاد ان ما كويت صرة فرن الزهرة ولعت فيهو النار..
انتظرني اللجيك الخبط كيانك دا!
ما بتقدر يا ود الزهرة قايل روحك منو انت.. نميري ولا العمدة؟
جنيت ولا شنو؟
بكلملك ابوى..
ابوك بحلك يا فقطة! وين عاد تمش الليلة؟
انت قايلني عوير ما بضارا منك في ضهر النيمة ديك وامرق روحي منك جري بس..
النشوف!
تشوف شنو؟ انت قايليني نوتة حساب ولا عربي؟
شن عرفك بيهن انت؟
الينفعنك كان فيهن فائدة!!
مواسم جية الزواره هذا العام خفت حراكها ولم تحفل البلد بضجيجهم كما كانت في شبابها. وانعدمت مساراتهم ومراحيلهم التي لا تفتر إلى حد الانقطاع بعد صولات وجولات من النضال والكفاح الذي قاده جيل جنابية ود سعيد ضد تسلطهم وقبضتهم الحديدية التي شيدت كل بيوت البلد الطينية.
انتفعوا بعدد بيوتنا الواقفة وخسروا قدر تلك التي وقعت مجبورة على النزوح في الليالي المسرجات بالنهيق الصباحي إلى امبدة وزقولنا والشقلة والقرية والحلة الجديدة.
وهذا هو الدرب الذي سار عليه عمي من بعد، على أمر تعدى قوة احتماله المرير على راتب جله يذهب إلى ثمن الدواء باحدى صيدليات كريمة.. وما درى بأن ارصاد القدر الاجتماعي قد ضلل حتى الذين امتطوا مسار أم قيردون الحاجة.
ووقتها عمي يقول: "الناس ديل عملو لينا شغل ام قيردون الحاجة".
ونشرة الثالثة تبدأ بمارش الطيور الخضراء وقليل من فتات الأخبار المبهرجة وكثير من الهرج والمرج والحديث السياسي المزكم للأنوف كهتاف أجرب معبأ ضد الجسد.
وأيامئذ استاذي المبجل يتبسم حيناً ويضحك حيناً ملَّ أشداقه ويده مبلولة بروث جحافل القادمون الجدد.. ويقول بخبث ثقيل ومتمهل: "انا ما مريخابي لكن بشجع اللعبة الحلوة".
وتبدأ رحلة النزوح وتشتعل كل النفوس بأوار الحرب الضروس على رأس منجل الجرف المنزلق بين الكداد اليابس وأعواد الجوافة المتيبسة والمتصلبة بفعل الجفاف.
وتنشغل ام قيردون بفلفلة ديدان الارض والناس تحت ليمونة أبي المغروس في كبدها مسمار صدي حتى تستفيق للتكاثر بلا ماروق ولا سماد.
كنا في حضرة التسلق واجادة حركة القهقرى التي لا يتقنها إلا الطيانة والطنابرة وهذه عادة تأصلت. نغني ونرقص على ايقاع الدليب هكذا حتى ابتلعنا هدام العثانين عن ترصد وعمد.
وبين ثقافة ذلك وذاك، الطنبور كائن يمشي بيننا كوطن وقبيلة وهوية وبعض لحن يسافر في البعيد ويحتل أفئدة دور أخرى.. وعراجين التمر تُفصل لنا كرداءً وطنياً من مخمل الرماد وحيمور الذات الناعم من بقايا لبن العشر المدلوق بين أطراف قوز الحلفا. وهنا ينتظرها بشغف وحرص ممشوق كقوامها المياس ولا يحيد عن المكان قيد أنملة بقدر الزمن الذي ينسرب منه في رصد كل العابرين بذات الطريق.. والتاريخ لا يعيد نفسه والا تحول في المرة الأولى إلى مأساة كما هو بائن في الخراب الذي طال بيت فاطني بت أحمد أو إلى ملهاة تقوم على مزاح ينتهي بنا إلى لعب خريفي جوار البيت المهدم.
وهنا كان يختبىء القحف ليضرم النار في قلبه ومن ثم يعاود الكرة إلى لعب صبياني مختزل بألوان الطين وقهقهات تطبع أنفاسها كخف الجمل على الرمل.
والانتظار يأتي مع غروب الشمس كشامة مسقية مع نال الظروف وربقة الانعتاق من البيوت الطينية المسربلة بالمواقيت وقصص السفر الخرافي.. هي تنتظر تلك اللحظات الحرجة لتطوف بأعجل ما يكون بركن الجزيري التحتاني حتى تخطف أنفاس الحبيب وتتوسدها وسادة لليل وسيارته..
والليل لوحة من تعب العشق والوجد.. تارة في ظنونها وتارة أخرى تنسرب إلى بنات نعش وتحكي لنفسها كل شيء غامر وعبر إلى عيونها في سويعات المساء.. تدخره لليل الطويل وتمضي به في عتمة الغي.
والحبيب هنالك ينسج على نول الاحتمالات في هدأة الليل طاقة للعبور ولا يغامر الا بالقدر الذي تتسع به شعبه الهوائية كلما ضاقت البلد وغابت النسمة وبان برج حمام عمي في الأعالي كومضة بارقة تضيء دروبها في البعيد وأوان لهاث العشق البريء والعفيف.
القحف! انت لابد هنا مالك؟
امشي يمش ريقك؟
عاد منتظرلك جقراية شكلك!
الجقر اليقرضك بى بركة عمي القرض..
يا زول قول بسم الله ما كفاية الطين المبشتن يدي..
دي خلقة ربنا يا مبدل وين ليك انت قاعد تشتغل ما معديها لعب كلها تحت نيمة خالي ومساسقة لي منقاية عمتي..
عاد انا اخير منك ترا مباري ابوى.. انت شن شغلتك يا طنباري يابتاع الطرور والهواليق!
غواية الرمل تنسج ضفيرتها بين يدي أجمل النساء وتظلل المسافة الراقدة على أطراف الحلة.. غلالة ذهبية تتراص وتفصح عن ميقات مكاني لعاشقِ أصيل ينثر دمعه الهامي جارفا به الكثبان وجدائل الغناء؛ سيد الأزمنة... ايقاع يمزق صمت المساء المجدول بالغياب واصوات ماعز ستنا بت على حسن تنوص على حب نادر لسيدها.. والبئر أعمق ما تكون في سطحها الموسمي، والماء تفور من عميق ينابيعها لتسقي جذور أشجار المسكيت وبعض نخل يتشبث بالحياة.
انت يا ولدي مالك مصنقر هنا فوق القوز ما تقوم من هني قبال تطقك عقيرب كمان..
منتظر بطان الكنيسة الغادي عشان ماشين لعبة الشقاقير يا ابوى العوض..
هي لكن ما تمش غادي بعيد من الوكرة دي..
آب تجيني عوجة..
اي كيفن ما بتجيك مصيبة والساعة ساعة مغارب..
خلاص بمش غادي شوية..
ابقى تعال داخل لا جوة البيت اشربلك شوية شاى مع بطان خالتك ستنا..
الشاى شاربو عند امي من قبيل..
آ زول دا شاى برامكة الشاربو قبيل ولا شاى ناس الشرق..!!
اي امي سوتو قبيل قبال المغارب ما تدخل فشان هي مارقالا مشوارا بعيد..
سمح يا يابا فتك بعافية الا ما راضي وقفتك البي فد رجل دي.. ساعة تحلق وساعة تقيف.. التقول فاتحلك موية عند ساقة سعيد..
ابوي العوض خلاص انا ماشي بعيد من هنا بعد دا لا فوق شوية..
وفي الإِيصاء الأبوي.. تضاريس من حنين السهو وفهارس التواطؤ أحياناً.. أن تتلصص في دمس الليل وجوفه الغريق على ألف سؤال من الوجع والفجيعة المغتسلة بطهر العشق قطعا بينهما رغبتك الشريرة في أن تواقع حبة فاكهة طازجة بطعم ثمار الجنة وتقضي وطرك على ضوء فانوس كفيف هو نوع من شبق الجنون الذي تتمناه ولا تحصل على جنى محصوله... ومواخير الليل في ذلك الوقت الحميم لا تشبه إلا محاولة صيد بري نافر من عيون الفلاة وبئر زمزم وقَدَحٌ أجْنَفٌ مرمي كجيفة للعابرين بين بطون وادي المخيلة.
في برهة فارقة، مال أحد شِقَّيْهِ عن الآخر وانحنى ظهرِه للتيارات العطرية العابرة على عجل والتقط حجارته ومضى متيقظا ومتيبسا عن برهان الطريق.. يا ليته ابتعد كما اعتزل واصل حلقة شيخه في إنتابهته الأخيرة.. ولكن هيهات المسافات والأبعاد ما بينه وبين عقل سيد راجح اختار الوصول دون ضوضاء متكأً على جزل شجرة يابس كبوصلة لحركته الكلية التي ترتكز على أمعائه الخاوية كخير مؤشر للانزالق نحو قضاريف الذات النزقة والمترفة... وأقدام القحف تقترب رُويداً رُويداً من أعواد السلك حتى انسربت إلى فلاة ضارية وخالية من ماء الجسد، وممتلئة بغيم أسْخمُ عابر أفياء الظن والإنتظار.
أوْصَى نفسه بعد حشرجة غليظة، صاحبها قضاف، باستعمال عطراً شرقياً ثلاث مراتٍ، إن كان على طهر بائن وبينه وبين النجاسة مسافة أن يصل حافياً ربوع الأرض الطيبة حتى لا يلوث أمكنة الجلوس بقذارة يحملها بين جنبيه من رائحته النتنة.
إعتنى بأمرِهِ وسار بين حفيف الريح وسيقان شجر الخروج المتفرق وأَوصَياءُ بهاق الجسد، وعهد إلى نفسه بمضغ نبتة السيكران كوصية قديمة ومعتقة ورثها عن جده لإمه حتى لا يتوه بين شعاب بيوضة صوب جهة الركن النعيمي وجبل الحوش.. وفي غمرة توهانه تذكر أيضا وصية أخرى من جدته الضريرة والتي دست بين صدره تميمة جلدية زفرة مصنوعة من ذكر نخلة عجفاء وعجيزة كلبة سوداء كانت في غابر الأيام مشغولة بحراسة جزارة الزمارنة... وقال حسب رؤيته: جدتي قالت لي: "اوصيك بفعل الخيرات واجتناب المحرمات وهذه وصية الله "، كما اوصته بالصلاة والزكاة ما دام حيا يستلطف أن يمد يده لمنقة الجيران.. وكما أوصته بتقوى الله وحضته وحثته على ذلك".. وهل هنالك حب أكثر من ذلك في سهل البرية وإبراء الذمة.. مدد يا شيخ الطريقة وتلك الزخارف التي صنعت أعشاشاً ناعمة وصلدة بين أغصان شجر الحراز في مواسم العوز والمسغبة.. تراتيل محشوة بوبر الهزيان ونُّسالةُ الغياب.
ولكنها لم تخصه بقيراط من قمح ثروتها كما يفعل أهل الورثة فقط حملته بعيدان جافة من نبات العشر وخصلات صفراء من أعشاب الحلفا.. ألم يكن ذلك القول فقهياً منصوص عليه في علم الشريعة! أجل كم أجاب في وعر الطّريق وتذكر سورة العصر:-{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
تجاوز كل تلك الزكائب والركاز ومضى بعيداً عن اتجاه قبلة شهوته الماطرة فأراد الخيرَ له وفعله بعيداً عن اِسْتِيصاءٌ لا يجلب له رزقاً سريعاً على أجنحة الطير الصافات.. وتوكل وامتشق راتب وِرده الصغير والمعطون بعطرون الحاجة اللعينة.. وصاحب الحاجة أعمى ولكنه ضرير بصيرة لا يلج سم كنتور جغرافية عافية الروح.. يظل في رهان المزاج وشعفوفة نساء الطقس المولعات بطلح الزهو والمحاكاة والتغريد الجماعي على صلصلة أواني المشربيات المنتصبات على ندبة رجل فقير إلا من جُبنه وعطشه الشبق لشجاعة يهزم بها غسق الفجر البعيد ليصحو ذات ساعة حتى ليوم واحد على فحولة تشق صمت السيولة واللزوجة.. وهل من رجل بعد ذلك أن أوصيه كما أوصته الحيزبُون على رمل خوفه المتناثر واللاهث لقضم طين جرف رجولته المائعة..؟
كان يعلف من خُشَاشُ اللغة ويحيك منها مفردات بالغة الهرطقة والنزالة وحيناً آخر يسند روحه إلى شيئاً ما، لا يعرف كنهه ولا يبصر هالة قمره.. وفي خريطة الجسد هنالك مسافة تبلغ نحو 62.000 ميل من طول الأوعية الدموية داخل جسم الإنسان وقيل لو تم مدها يمكن أن تدور حول الأرض مرتان ونصف... أظن انه دار بعد تلك المتاهة حول أركان الأرض أكثر من ذلك بحثاً عن كنز قارون ولا تزال عزيمته مسنودة بأمل ضخم تتسع له كل يوم أضلعه، فالخيال بلا دنس هو يقين بلا وصول، فلا ينوب منه المريد إلا العلال.. فالحوار يقضي ليلته بين ماتن قلبه، وشارح ظنه حتى لا تتبعثر حجارته في إلقامها كلب يعوي في هزيع الليل، وبذلك تصعد أثمان الصخر ويغتني منه القحف أو غيره من أهل الأرض الهشة.
والحجر لو ناله الزواره لما هجروا مهمة صيانة حجر العطرون ولا جسد البلد، ولشيدوا به مدن الحب والأمل بدلاً عن فراديس تنتظر موتها، والقول قديم لدرويش غير ممسوس بحرير القصور، وهو في علياء نُبُوءته.