ذات رحلة من رحلاتي المتكررة إلى أرض البطانة، غرب القضارف، زرت قرية صغيرة اسمها (الكراديس)، مبنية من القطاطي الكبيرة المتسعة على ربوة حجرية عالية، حيث استضافني شاب باحث أصبح فيما بعد من أعز أصدقائي، هو الأستاذ ميرغني الطاهر. وعادة أهل البطانة أن يغدقوا عليك من سخائهم طعاماً وشراباً، ثم يطربوك، في المساءات، من إنشادهم العذب لشعر المسادير والدوبيت.
وهكذا أخذ الشباب ينشدونني أشكالاً وألواناً من هذا الفن لشعراء مختلفين. لكن لفت انتباهي بخاصة شاعر ذو خصوصية في الأوزان والصور غير المعتادة، فسألت عنه بالذات، فقالوا لي إنه المدني الكردوسي، واختلفوا في تاريخ ميلاده، وسيرته الذاتية، بل حتى في شعره، رغم أنهم كانوا حفظة وأذكياء ومتحمسين مثلهم مثل كل شيء في البطانة! منذ ذلك اليوم بدأ اهتمامنا، ميرغني الطاهر وشخصي، بتحقيق شعر المدني عبد الله الكردوسي البوادري. لكننا كلما تعمقنا فيه، كلما جهلناه أكثر!
ولد صاحبنا في تلك القرية عام 1909م، وتوفي بمدينة القضارف في 1937م، وقبره قائم إلى الآن بسوق القوني وعليه تربيزة خضار! وخلال هذا العمر القصير جداً أنشأ ما لا حصر له من المسادير، كمسدار الصيد، ومسدار الأيام، ومسدار الغرام. أما أوزانه الشعرية، ونظام التقفية عنده، فشديد الشبه بالموشحات الأندلسية. ومن عجيب إنشاده، ليس في مستوى شعر البطانة فحسب، بل وعموم الشعر السوداني، قصيدته "ليلي ليلْ يا شتل ليلْ" التي لم أجد مثيلاً لها إلا في سبعينات القرن الماضي، ضمن ما أنشأ الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم من مواويل معروفة! وقد اعتاد الكردوسي أن يرتجل القصيدة في شكل مربوعات في الحفلات، فيرددها خلفه كورس من أصحابه، مثل: "الكلام بالبَمْبَقاية/ والحديث بالإنتِكاية/ يموت فِلان راجل هِناية/ يعيش فِلان يعشق هِناية/ ليلي ليلْ .. يا شتلي ليلْ"! أو مثل: "قادِر حكيماً وضَّحِنْ/ جَبَد البراطِم ورضَّخِنْ/ حكَّر وجيهاتِن وشلخِنْ/ في جُوفي عاملات مطبخِنْ/ ليلي ليلْ .. يا شتلي ليلْ"! أو مثل: "سِتَّ الجَّمال الهولهنْ/ إزداد علي بهدولهنْ/ مِتقايسات في طولهنْ/ والجنني حجولهنْ/ ليلي ليلْ .. يا شتلي ليلْ"!
ويشيع في تلك النواحي أن للكردوسي جاناً كان يلهمه الشعر! ويتداول الناس هنالك أن شيئاً من هذا قد تأكد في حادثة موته ذاته. ففي ذلك اليوم، وقبل وفاة الكردوسي بساعات، كان القوم مشغولين، كعادتهم، في أراضيهم الزراعية، وكان ثمة خبراء إنجليز يشرحون لهم نظام الحريق، وكان سعيد عبد الفضيل، صَديق الكردوسي، يعمل، هو الآخر، في أرضه، عندما جاءه رجل أبيض، كما الخواجات تماماً، لكنه عار كما ولدته أمه، بظهر محدودب، وشعر رأس غزير، ولحية بيضاء، وحاجبين كثيفين يكادان يحجبان عينيه، حتى أنه كان يضطر لإزاحتهما بأصابعه المعقوفة كي يتمكن من الرؤية!
جثا هذا الرجل على ركبتيه أمام سعيد، وقال له، بعد أن غرس أظافره الطويلة في التربة الطينية السوداء:
ـ "البركة فيكم .. المدني مات"!
وذلك قبل أن يقدم إليه نفسه باعتباره جان الشاعر الكردوسي، عارضاً أن يمده بالشعر بعد رحيله. لكن سعيداً خاف ورفض. لم ييأس الجان، ومضى يحاول أن يوسوس له ويغويه، فسأله ما إن كان ثمة من استطاع أن يجاري مربوعة شاعر البطانة ود عم شبيش: "رابعة ربيعة بى سلحات غراما مَتوَّكْ/ خِلقة طريَّة قبَّال الحَمَار تِسَّوَّك/ الخلاهُ معشوق ناس فِلانة اتبوَّكْ/ حِليت نمَّتِن بعدَ النَّجم ادوَّكْ"! فأجاب سعيد بالنفي. فما كان من الجان إلا أن قال له مجارياً: "رابعة ربيعة بى سلحات غراما مهرَّدْ/ خِلقة طريَّة قبَّال الحَمَار تِتبرَّدْ/ الخلاهُ معشوق ناس فِلانة اتعرَّضْ/ حِليت نمَّتِن بعدَ النِّهار ما بَرَّدْ"!
رغم ذلك رفض سعيد عرض الجان!
والكردوسي شاعر مدينة، وقد أورد في شعره كثيراً من المفردات الحديثة، مثل (مطبخ، كبري، لوري، شنبر، مدرعات). وأفادني المرحوم عون الشريف قاسم بأن الكردوسي كان عالم فلك. كما لاحظ الباحث والشاعر ميرغني ديشاب أنه استخدم أوزاناً شعرية غريبة على شعراء البطانة الذين التزموا (بحر الرجز) في الغالب، وأظن ذلك بسبب نمط الحياة الذي عاشه، حيث لم يستخدم الناقة، قط، في ترحاله، بل الحمار، كما في رحلته المشهورة، مع صديقه محمد عبد الواحد، إلى خشم القربة لرؤية امرأة قيل إنها كانت آية في الجمال. ولأن مشي الحمار أسرع جاءت أقرب إليه إيقاعات شعر الكردوسي.
ربما يحتار المهتمون بشعر البطانة في عدم شهرة هذا الشاعر الكبير الذي وقف على قبره صديقه الشاعر الكبير الآخر المرحوم أحمد عوض الكريم أبو سن، قائلاً: "الغنا اندفن هنا"، كناية عن تقديره العالي لشاعريَّته الفذة! ولعل سبب ذلك أن الكردوسي، عليه رحمة الله، لا ينحدر من قبيلة كبيرة ذات سُلطان، كشُعراء الشكرية السِّنَّابْ.