دنان واطة حموري
ناصر البهدير
منذ أعوام عِدَّةَ عصية على النسيان. لا أعرف على وجه الدقة من الناحية اليسار، وأنت تتملك كل ثقل شارع ساقة ود المرين، لمن تلك الأرض التي تقع في الحيز الجغرافي بعد واطة حموري! أرض ربما أراها منقوشة بلون أخضر زاهي، وربما أحيانا كثيرة جرداء كأنها معزة جدتي ستنا حليم العجفاء. ولكن بالطبع أعرف كل تفاصيل الأرض التي تجاورها من ناحية اليمين. والأرض في البلد لا تتجاوز مساحة الاشتهاء في أن تتمدد، وأنت متوهطها من عرضها، أما طولها، فسيان ذلك في جغرافية دقيقة ملتزمة بحساب الحدود. امتداد ساقية يبدأ من قوز الرماد، والحلفا، والعشر، وبيت ستنا بت كرفس، مرورا بالخور، ودرب الترك، والجنابية، والحفير، والجرف، حتى البحر، إذا جاد ونفح الناس طينا جديدا من فيضه المترع بالخير والخراب.
في جنوب الجنابية، كان النهار ينقضي وجزء من اليوم بين أشجار الطلح التي تسكن واطة حموري، وبعض أعشاب شاحبة تشكو غياب سلالات الضوء. عصبة نحن يومئذ. نتراكض بخفة عصافير الجنابية، وقوة ونشاط ثور جدي الأسود، وسط الأشواك اليابسة، والتي تملأ المكان. نفرد أرجلنا لأشواك غزيرة، ونمضي لحالنا وسط حبورنا بمعركة الدنانين. تلك المعركة التي لا يمكن لك أن تخرج منها مهزوماً إو منتصراً إلا إذا فقدت القدرة على أن تعبىء ماعونك الحديدي بسرب من حشرات الرعد. وبيننا وبين ذلك شد وجذب في لهاث محموم.
ود الزهرة بطوله الفارع أمسك بدنان الرعد الذي كان من نصيبي في ظاهر الحال من الشجرة التي غاب أسفل ساقها في الأرض بثبات، وطمأنينة، ووقار درويش لأعوام مضت، والتي ترجع إلى الحموراب.
ونشب بيننا صراعاً عنيفاً لم يفض سحب غُبارُه إلا عمتي. والدنان كان جميلاً وأملساً يصدر صوتاً كالرعد، لذا تمسكت بأحقية ملكيته. والرعد هنا حشرة، وفي البطانة صوت المطر الذي يشبه أزيز الطائرات.
وعمتى تقول لنا: اخجلوا انتو ناس كبار تتشاكلو في دنان.
وبكيت بحرقة أنين لم يألفه من قبل قلبي الذي توزع بين شد الدنان على طرف خيط حتى يطير؛ وهو مقبوضاً بطرفي أناملي، وبين فقداني لرؤية بيض الدنان؛ وهو معتقلاً في علبة اللبن الصغيرة حين يحتل أسافلها. والعلبة عادة ما نجلبها من دكان التعاون الذي يقع على أطراف وسط الكنيسة من ناحية أعاليها.
وفرحتنا تكمن في أن نجعل من العلبة بيتاً حديدياً مرصوص بصفق النيم كعش أم دلدلو على أفرع الحراز حتى نرى البيض. وكنا على يقين بأن الدنان سيبيض أجلاً أم عاجلاً، وطاقة معرفتنا لم تتجاوز ما نراه في ذلك كل يوم. وفي الواقع كان الوقت خريفاً أوان نزاعنا، وهو موسم التوالد لكثير من الحشرات، ومن بينها الدنان؛ مبعث شغبنا وصراعنا.
والدنانين مملكتنا وخيار جنتنا بعد بيت حسونة، وفاطني بت إحمد، ودومة أمنا الزهرة بت على حسن، ودوم المهاجر.
كنا نلعب بها، بمرح طفولي دافق، بأن نضع شوكة بيضاء من عيدان الطلح في أرجلها بعد أن نقص ساقها، ونظل نمسك بمؤخرة الشوكة بينما الحشرة تطوف في الهواء بأجنحتها مصدرة طنيناً يشكل مزاجنا كيفما أتفق، أو نشد خيطاً كنا قد سرقناه خلسة من مكنة التومة في غيابها، ومن ثم نربطه على ساق الحشرة، ونتركها تجوب الفضاء، وتحلق كما تشتهي، ونحن كذلك في نصيب حصة السماء.
وأيضا من علبة الطحنية نتخذ عنبراً للولادة لأمهات الدنانين الحبلات بالبُيوض. العلبة الصفيحية التي بلغ سعرها في تلك الأزمنة المتخمة بالمحنة ما يساوي تقريباً خمسة وعشرون قرشا. وكان أشطرنا في فن التجارة ولداً يمتهن هذه الحرفة. ويبيع الملعقة ما يساوي قرشا، ويختم تجارته بشلن فضي اللون، ومن ثم يكر راجعاً إلى دكان صالح ود مدني، ويشتري أخرى لنهار الغد، وجوقة شفع المدرسة تحت دومة الزهرة في رهدهم الوسيم. وفي نهار مقيلنا نظفر بماء الدوم الطاعم ونشهد صراعا عنيفا بين بنات الكنيسة الغادي حول دومة فقدت عذريتها وجمالها. أصبحت مربط حمير ومعبر حريم صغير يصنع سيل مدرسة المهاجر الإبتدائية بنات. ومن فرط تلك الفوضي، لا أحد يهتم بنظافتها رغم أنها تقع في بطن الحوش.
وبنوت الكنيسة الغادي كنا أكثر حضوراً بضفائرهن المجدولة بدقة تشبه وسامة قَيِّضُ ينطلق ليُكوى ناقة جدي أحمد طه من داء ألم بها أثناء رعيها في مراتع نيم خلوة ميرغني في غياب حموري الكبير. ويستل جدي حجرٌ صغيرٌ مدوَّر من جرابه يُسخن على فحم موقد أمي حيدوبة، وتُكوى به الناقة في نقرة أردافها ورقبتها الناشزة فويق أشجار النيم ولا تهم كما البنات يرعن بود وهدوء تحت الدومة ويملأن حقائبهن بثمار لا تموت في الشتاء ولا الصيف فقط يخمد ويجف مائها الطاعم، كسكر التعاون عند حصة التموين، بعد انتهاء الموسم الذي يأتي بإنتهاء إجازة المدرسة.
وينقضي النهار تحت ظل الدومة ونيم الخلوة. ونعود أكثر مزاحاً وعطشاً لماء الدومة بعد أن يخلو المكان ونسمع نداء صلاة العصر على صوت رخيم لا يشبه مؤذن الخلوة ذلك اليوم. ونكون عل يقين بأن عمي ود العوض يجرب صوته حتى يختبر نصاب البلوغ.
ويصحو شغبنا مرة أخرى عند مداخل ظل الدومة، وندخل في قتال شرس لا ينتهي إلا بقدومها هذه المرة.
انتقت في حضورها الثاني موقفاً متألفاً مع غنجها بعد أن شعرت بأن العيون تلاحقها. أسدلت جزء من غطاء رأسها، واتجهت عيونها صوب عمتي؛ وبصوت منخفض غارق في خُيلاءُ وأنوثة فائحة المفاتن..
انتِ ود الزهرة مالو ومال بطان ناس لا فوق.. ما يدي الجنا الدنان حقو!
عاد تقولي شنو؟ قلاع عديل مُحمد أخوي ده.
عظمة الدنان الليله لقاها..
عظمه ساى!
غايتو اخوك ده بتاع حجي وغلبة!
انا الليلي غلبني عديل الاسوي معاهو! أصبر بحدثلك خالي..!
والدنان في علياء شموخه يتلألأ كقمر حشد هالته ليوم مصلوب بالمديح.. والعاشق في غيمته يتدثر بغيث الجمال وصفاء الروح وريق كالندى يتلاصف على أوراق المريق.. وحشرة تزحف بين خياشيم الروح، وتسرد مسيرتها نحو الانتقال إلى طقس طهورة البرسيم أوان موسم الدميرة وغياب الطمي اليابس.
ويدخل الدنان في غيابات علبة مدهونة بدهن ممشوق القوام، وعلى رؤوس أعواد القرنفل، وبعض رائحة تطارد حتى القمل في مسراه حين يعربد بشعر طال إهماله.
أرمقه بلطف وقلب يناهد، وأوزع نظراتي بتساوٍ عادل؛ نظرة تذهب إلى دنان الرعد في سجنه البائس، وأخرى أختلسها بعمق، وأتجول فيها بحذر في فالق صدر مكتنز بحبتين من البرتقال.. برتقال جدي المليح حين يصعد بين فنن أشجاره التي تسد دروب ساقة السورجاب. وكلاهما في النصيب قدر وأمل.
وكنت أبحث عن انتصار بين فكين؛ أحلاهما مر. شبق طفولة يشدني إلى صوت الرعد الثقيل، وجنون صبا يجعلني والغ في ميعة صبية تكبرني بعامين في جسدها، وإن ولدنا في نفس العام الذي إختفت فيه ترعة السورجاب.
وكلانا تاريخ مزدوج من الانفصام والعلو والانخفاض... جدي لأبي اسند رجليه للراحة، وجدي لأمي انطلق مجددا انتصاراته الخضراء في دفاتر كثبان قوز السورجاب تلك الرقعة العذراء. جدها لأبيها غاب في ذات العام من غير عودة، وجدها لأمها لا يزال يمسد بطوله الفارع بعض الشوارع في الحلة، كأسد يقضي أيامه الأخيرة في غابة الحياة سعيدا بأشباله.
فالجسد فارع ومستوٍ كغصن سيسبانة في جرف جدي تصمد وتميل وسط عاصفة ليلية ساخنة.. وقلبي منشغل بجذعها الرهيف حين يتمائل نحو اليسار واليمين. وتخونني اللحظات الهشة، وجوقة لا تكف عن الصياح جاءت متزامنة مع مرور بص جاهوري في مسيره اليومي المعتاد، وهذا أوان عودة المساء الباكر.
ومسائي يتجلى هناك. وأحلب من ضرع دومتي عصيراً، وأسقي بكفي حبيبة الطير الضال في ظل إنشغال ود الزهرة بصيده الثمين، وعمتي هي نفسها تنشغل بجمع الجريد اليابس لعواسة الليل حين تفيض الموائد بفطير ولبن طاعم.
وبالعين الأخرى أراقب حركة الدنان الذي لا يزال ممسكاً به ود الزهرة بأنفة صياد ماهر، وكبرياء تاجر غشيم. حيناً يدفنه في العلبة، وحيناً آخر يرفعه نحو أفق السماء مباهياً به أقراننا.
ولعبة الثعبان والسلم بلا نهاية تبدو في أفق الزمان والمكان، وغزواتي تتكرر لمحة هنا، وأخرى هناك في تبادل يتسق مع درامية المشهد، ولا أمل بالنصر في مطلق الأحوال كما يرى قلبي اللهفان.
وتلوح في الأفق نذر معركة أخرى من نوع آخر، وسحبها تملأ الأرجاء، ونداءات القلب والجسد تستشيط غضباً للحظات تمضي بلا أمل في عصر دومة هشة تروي عطش طال أمده لصبي ملَّ وسئم الإنتظار.
نثيث بدأ خفيفاً غير منقطع كقطرات الغيث لا يلبث أن يتوقف وينهار خلف سديم لحظة الهيجان العارمة والغارقة في الزوال.
وامتص كل حرف تموسقه على نبرة عالية الرهافة، وأذوب في لحن كلماتها المقفأة ولا ألوم إلا صيوان أذني المُهترئ.
ما بين سرسار جدول وثرثرة عابرة، أيقنت أن نبض الشريان اعتورته علة لا شفاء منها، وما تبقى من الوقت لا يسعف القلب بالراحة طالما نبضه يتراخى في الصعود والهبوط.
وتفرقنا أيدى العريان كما بص جاهوري ولوري ود الكعين؛ وكلاهما يطوي المسافة على انبعاث أصوات؛ صرصرة عاتية لها شهيق بين حقول الرمل المترامية. ومروي نقطة الملتقى.
هكذا أشعر كما لا شيء يغرب عن البال. بتنا كما الناس من البيت إلى الغيط؛ وجاءت نوبة المساء. والقلب في نشدان الوصول، نتحسس مسيل أرجلنا نحو عبور درب الترك، ولين ندىً خفيفاً يلامسنا برشاقة الزهو.
وفي هذا الهسيس المشبع بالرطوبة تعالت من جديد أصواتنا هاتكة وسامة المساء المغالية في حضور ناعم ومرتبك، والشمس وقتها تسدر في غيبوبة الأصيل وسط ألوان شاحبة لا تبصر على مجري النيل؛ شواهد شتى.
فاح عِطرُ خفيف وملتبس في فداحة الافتضاح، وأخذت رائحةُ زكية تضوع بين دروب الساقة، ورائحة الغرين، وأنفاس طيب الخدم المنسالة على مرمى حجر من صياحنا المستمر حول من هو أحق بملكية الدنان. وكل قبضة يدي أنقَى من الرَّاحةِ؛ مُعدماً كم الخملات من فرصة استرجاع رائحة الطعام الطازج. واظل ألح في طلب طعم الجروف متكئاً على صوت الدنان حين بدأ يستعيد عافيته.
ورأيتها عند ملتقى ضفة النهر والماء توزع حضورها بصمت يدخل بين العصا ولحائها.
وأتمدد على جسارة وبسالة، وأحكم قبضتي تواً في محاولة ناجحة على بيت الدنان. وينشط على لسان البحر نثار غبار لمعركة تتناسل غلالتها في الأنحاء والأعالي حتى غور الماء الذي تغضن وأضحى موجات إثر موجات متدافعة تنتهي إلى زبد متطائر يرغي كما ناقة جدي أحمد طه.
وفجأة من يدي يسقط كل شيء في شيمة الماء الراحلة. العلبة والدنان في جوفها، وعصا صغيرة من السلم، وبعض قلب خائر المسيرة. وغاب الدنان، وغابت سِتُّ الحُسن في لمحة من البصر. وقبضت الماء بكفي على يقين أخضر سيأتي غداة كل يوم أمضي عابراً درب الترك.