بقلم شادى العمر
هي بداهة منطقية أنه ليس ثمة أكثرية دون أقلية، فالحدّان (أكثرية وأقلية) متقابلان بالتضايف لا يوجد أحدهما إلا بوجود الآخر، وإذا كان مسمّى التقابل هنا حسابياً يقوم على الكمّ والعدد، فإنّ التقابل المماثل (أغلبية وأقلية) يقوم على النتيجة الضرورية التي يكون التقابل الكمّي مقدّمة لها، ولأنّ "الكثرة تغلب الشجاعة" فهي ولا شكّ ستغلب ما دون ذلك. إذن، فالأكثرية، ويا للخيبة، أغلبية بقوّة العدد.
(أكثر أو أقل) وصف يمكن أن يبقى حيادياً بارداً غير ضارٍ إذا بقي رهين العدد الحسابي الصرف، والعلاقة بينهما هي علاقة "أكبر وأصغر"، وكما تعلمنا في دروس الحساب أيام طفولتنا فإنّ 9 > 5، لكن معلّم الرياضيات عندما شرح لنا معنى الرمز المستخدم كي لا نخطئ في رسمه، شبّهه لنا بالفم المفتوح للسمكة الكبيرة التي ستلتهم السمكة الصغيرة، حينها لم يعد المعنى حيادياً بارداً، بل: "الأكثر هو الغالب والأقلّ هو المغلوب".
كي يتحوّل الوصف الذي هو عَرَض إلى حدّ ذي جوهر ثابت وباق، فإنّه يحتاج إلى هوية تحدّه، فالهوية هي ما به يكون الشيء، هي التي تحدّد جوهره وتضعه، لذلك فكلّ تحديد وضع، كما أنّ كلّ تحديد نفي، لأنّ وضع مجموعة مقوّمات وخصائص لشيء ما يعني بالمقابل نفي مجموعة أخرى من المقوّمات والخصائص عنه. فإذا أدركت جماعة ما أنّ أهمّ ما يقوّمها ويميّز خصوصيتها أنّها الأكثر عدداً فإنّها تحيل هذا العرض إلى جوهر أو هوية تمتاز بها وتنتسب إليها فتصبح أكثرية. والأكثرية إذ تضع نفسها على هذا الشكل فإنها تضع غيرها أيضاً، لأنّها بسلطة الكثرة وسطوتها تمتلك بروتوكول التسمية، فتسمّي نفسها "أغلبية" وتسمّي غيرها "أقلّية". ثم لا يبقى الاسم في حدود التنكير فقط، فتغدو زيادة ألف ولام التعريف إمعاناً في المطابقة بين الاسم والمسمّى، وتصبح الإشارة واضحة الدلالة لا لبس فيها ولا غموض.
وعندما تصبح الغلبة هي الهدف المطلوب تحقيقه والمحافظة عليه، فإنّ الأكثرية يجب أن تبقى أكثرية لكي تبقى غالبة، أي أن تحمي نفسها من النقصان، وأن تحمي نفسها من الزيادة أيضاً، لأنّ الزيادة عندما تسير إلى أقصاها ستقضي على الأقلية، وإذا لم يعد هناك أقلية فليس ثمّة أكثرية، ذلك لأنّ سقوط أحد حدّي التضايف يعني بالضرورة سقوط الحدّ الآخر، وبالتالي لا غالب عندما يصبح الجميع غالباً، وليس مفارقة أبداً أن يكون الفعل (غَلَبَ) فعلاً متعدّياً، وأنّ الأغلبية متعدّية على الأقلية.
كي تصبح الأكثرية أغلبية غالبة فهذا يعني أن تغني هويتها بصفات الغالب وتصم الأقلية التي تقابلها بسمات المغلوب، فلا تبقي خيراً في أحد إلا وتنسبه إليها دون غيرها، ولا تترك شراً فيها إلا بعد أن تتبرأ منه وتلبسه أقلياتها.
مهما زادت الأغلبية فإنّها لا تقبل الجمع لأنها تبقى واحدة، فهي تزداد من داخلها وتحمي نفسها من التجزؤ والتعدد. أما جمع أقلية إلى أقليات فهو يزيد في تفتيتها وبالتالي إضعافها، وكلما زادت الأقليات عملت الأغلبية على تصنيفها وترتيبها في درجات يعلو بعضها بعضاً، ثم تمنح الدرجة الأعلى بين الأقليات من فتات الامتيازات وظلال الفضائل ما يقويها على ما دونها، كي تفصل بين هذه الدرجات ببرازخ لا يمكن اختراقها أو مجرد زحزحتها، فتغلب بالكثرة وتسود بالتفرقة وتقوى بإضعاف الجميع.
{منتديات شبكة طوكر}