عسلاية وطني الآخر (1)
أعود بعد غيبة مجدداً إلى عسلاية الأم الرؤوم والوطن الآخر الذي يسكن ضلوعي ويتوهطه كما يشاء، والذي بحق يمثل عندي الملاذ لسدرة مبتداى ومنتهاى .. ولعل عسلاية في ذاكرتي لما تبارح المكان منذ أن كنا طلاباً بأبتدائية مصنع سكر حلفا الجديدة (أ) بنين وذلك عهد فقدنا فيه الكثير من الأصدقاء والزملاء وثلة من الجيران الذين قدرت لهم الظروف في ذلك الزمان الباكر موقعاً آخر في الحياة بأنتقال أبائهم إلى عسلاية بعد أن بدأ العمل في المصنع على ضفاف النيل الابيض جوار قرى قوقيلا، الفردوس، الهجاليج المدرسة وعبد الله الشيخ، الرواشدة، ابو طليح، وحجر عسلاية وغيرها من القرى الواقعة في نطاق المشروع ..
وغادرنا في أواخر عقد السبعينات أبناء جيراننا الأعزاء مراد ومهند عبيد عبد الرسول، على (جامبو) وعثمان ومختار عبد الله محمد خير، هاشم عوض عوض الكريم، معاذ نوري، محمد ومعتز جمال محمد احمد، خليل عبد الله خليل، الجار العزيز العم عيسى محمد عثمان (عيسى السنجك)، والزملاء صالح وفرح ونجم الدين مكي محمد صالح، رمضان ملوال يونس، والزميل الفاضل الكردي ابن الراحل الجليل مصطفى كردي، وبما فيهم عمي سعيد محمد محجوب رحمة ابن خال والدي الذي كان يسكن معنا في البيت بحى خمسين بيت بمصنع سكر حلفا الجديدة، وغيرهم لا تسعني الذاكرة بسرد اسمائهم ..
وكانت تعتبر تلك العملية أكبر نقليات تمت في السودان خلال تلك الفترة وفي قطاع السكر تحديداً اذ زامنتها نقليات أخرى من مصنع الجنيد الشقيق الأكبر لمصنع سكر حلفا الجديدة وتوام الروح والجسد وشيخ مصانع السكر السودانية ولا يزال ..
وتزامنت مع حركة التنقلات تلك إلى عسلاية أيضا تنقلات أخرى إلى مصنع سكر سنار والذي بدأ الانتاج فيه متقارباً مع بدء الإنتاج في عسلاية، مما شكل فراغاً عريضاً بمصنعى حلفا والجنيد خاصة أن المنطقتين فقدت الكثير من العمال والموظفين المهرة الذين كانوا يشكلون عماد الإنتاج والنسيج الاجتماعي المتسم بحياة شغيلة جليلة وعظيمة ربطت جميع أهل السودان في بوتقة واحدة ولا تزال تمضي المسيرة بذات النسق صانعة وطناً مصغراً في مصانع السكر وهذا ما فشلت فيه كل الحكومات المتعاقبة بما فيها الانقاذ التي شتت شمل الوطن في مماحكة كبيرة قضت مضجع أبنائه حتى ساعة الناس هذه وكانت القشة التي قصمت ظهر بعير بلادنا وتنميتها..
وفي ذلك الوقت تناهي وتسرب إلى مسامع وعينا منطقة تسمى (عسلاية) وبهذا دخلت البلدة الجديدة قاموسنا اللغوي والمعرفي في أُبهة بإضطراد سريع حتى إحتلت مكاناً لا يزال وريفاً كما كل بلادي الطيبة ..
وفي هذا الأثناء انضم إلى ركب التعيين بالمصنع والدي الآخر وعمي وصديقي العزيز سيد احمد محمد الحسن البهدير شقيق والدي مما شكل علامة فارقة في إنتمائي إلى عسلاية جنة مصانع السكر السودانية فيما بعد..
وأمتدت الايام بنا وإذ بها تمنحني فرصة بعد منتصف عقد الثمانينات أن أكون حضوراً بملاعب هذه الروضة الغناء .. وكان ذلك في أحد إجازاتي المدرسية، وهى تصادف فصل الخريف، والتي كان في العادة نقضيها في القرير وعلى وجه التحديد بالكنيسة مسقط راسي ومولدي .. لقد صادفت عمي سيد احمد البهدير في الخرطوم حيث أصر على للذهاب إلى عسلاية كعادته وطيبته التي تملأ كل أركان قلبه الكبير والممتليء بحب الناس جميعاً وهذا حاله حتى يومنا هذا وما نكس هذا الجميل عن واجبه وعادته .. رجل لا يملك عيونه ولا محاجر شوقه وحنينه المنهمر كالسيل دوما نثيث متصل محبة للناس ولا ينتقص إلا إستزادة..
فما كان مني حيال فرصة كهذه إلا أن حزمت أمتعتي ويممت وجهتي صوب عسلاية مع عمي بدون أي تردد، عسى ولعل أن التقى زمرة الاصدقاء وزملاء الدراسة والجيران بسكر حلفا الجديدة سابقاً ..
ونواصل في هجيج الشوق