سوق العمل واحد والثقافة متعددة

سوق العمل واحد والثقافة متعددة
مضى زمن طويل كنت فيه لا أثير رغبتي بالتساؤل الملح حين أرى تلك الصفوف المتراصة من عتالة السكر بين أهازيجهم بمخازن مصنع سكر حلفا الجديدة، الذين لا يجهدون أنفسهم في عراك من غير معترك طالما شيخ العتالة يتولى أمرهم وهو ممسك بدفة العمل يوزعه بالطريقة المثلى التي تضمن للجميع الحق المتساوي؛ العمل مقابل المال. وبذلك تسود العدالة أوساط الشغيلة المحنية ظهورها للعمل الشاق لمهن لا تعرف دفع الفواتير ودفاتر الشيكات على ما اصطلح عليه في العالم الغربي بـ(Day job) ..
قبل فترة كنت شاهداً على نمط جديد من ثقافة تنظيم سوق العمل اليدوي بين شغيلة أجنبية تنتمي لحضارة وادي السِّنْد تملأ طرقات ومداخل كل شوارع البحرين وأزقتها أيضاً بكثافة تثير الكثير من الأسئلة خاصة أنها تتزيّا بلباسها الوطني التقليدي، إذ لا تزال ضد التفريط في مكتسباتها الثقافية وعاداتها ونظامها الغذائي المختلف في بلد عرف بقبول الآخر بدون تحفظ حتى التبغ الأخضر (التنباك) مصوناً بين خلجات ذاكرتهم الحية قبل أن يجد له مستقراً بين الفكوك ..
هكذا نراهم ونشاهدهم بتفاصيلهم المتوهجة وذكائهم الوقاد وحيويتهم الباذخة وانتشارهم على اتساع بلاد البحرين في كل الميادين بلعبتهم المفضلة؛ الكريكت، ومذاق توابلهم الحارقة بنكتها الطيبة وصبرهم الوسيع لكل أعمال الحفريات والأشغال الشاقة مثلما يعتلون سدة وظائف أخرى في مؤسسات كبرى حيث أشتهروا بفطرة الذكاء..
في ذلك المساء المتخم برهق العمل.. جاء هؤلاء الثلاثة لترحيل اثاث صديق عزيز إلى بيته .. وكانوا يملأون المكان بضجيج خافت تكاد لا تستبينه من فرط هسيسه الدافيء ولكنه رويداً رويداً بدأ بالارتفاع حتى أقحمونا في جدلهم ولما كنا لا نعرف شيئاً عن لغتهم إكتفينا بالإشارة وهم كذلك ..
وامتد النقاش منساباً دون الوصول إلى إية حلول مرضية لطرفي النزاع المثالي حتى اهتدوا الى عملة معدنية من الفلس البحريني كانت بين أيديهم، وهى ما تعادل مئة فلس، والتي تطلق عليها أيضاً الروبية صكاً على مسمى العملة الهندية المتداولة في قديم الزمان بالبلاد، لكى تكون حكماً عدلاً بينهم في أمرهم الذي استطال فك طلاسمه حتى إستعانوا بنا في رمى العملة ذات اللونين؛ الفضي والذهبي نحو الأعالي ومع ذلك لم يشف غليل أحدهم حيث كان محتداً في تلك القسمة الضيزي وانحاز إلى شعور الضيم الذي لازمه كما يظن كلما أبعدته لعبة شيخه عن رفاقه كما عرفنا فيما بعد كيف حدث ذلك.. وهكذا تجري مقاديرهم في العمل اليومي بتراتبية وتساوٍ فريد يصنعونه ربما لضيق الفرص وانعدامها أحياناً أو وفق ثقافتهم المكتسبة من بلادهم..
وفي تلك اللحظات المشبعة بالفضول من جانبي، تسمرت لبرهة من الوقت مع هاتفي الجوال حتى أقف على المشهد كاملاً عبر عدسة الكاميرا، وفي غمرة إنشغالي إنصرف أخوة الإنسانية الثلاثة إلى داخل المنزل واكملوا مهمتهم بالتخلص من زميلهم الثالث بعد مماحكة ومحاصصة عبر ذات العملة التي سعوا إليها من بلادهم المشبعة أصلا بالجدل والذكاء الأنساني الفريد وفوبيا الأديان والتطرف والفقر والمسغبة والكوارث مثلنا تماماً والا ما كنا سوياً هنا نقتات ثمار صبر الظروف المرة وعسف أولجاركية الأثرياء الجدد وفيوضات النفط..
واختلف أخوة الانسانية على مفترق طرق عديدة من الرزق الشحيح وهم يواجهون ظروف قاسية تكتنف إزميلهم المهدور دمه على قارعة أمانيهم واحلامهم الموقوفة على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ .. وكان نصيب جنيهم للعمل وقتذاك يتسع لاثنين فقط دون الثالث وهكذا مضوا في عملهم وغادر الثالث والأسى يخترق قلبه حيث أسنده للحزن والقلق والهم في بلد لا تعرف معنى التبطل لساعة واحدة دعك عن فرصة ثمينة كهذه تمر بلا إقتناص ..

سوق العمل واحد والثقافة متعددة 4kisu1

» قراءة في رواية (زجاجتان وعنق واحد)
» تحسين أجواء العمل الجماعي
» واحد يسوي ألف
» جرحنا وفرحنا واحد
» رواية (زجاجتان وعنق واحد)