من وحي مقعد النص
__________
حين تصل الساعة الخامسة عصرا تكون الشمس قد بلغت قمة شراستها ، لأنها توقن أنها بعد قليل ستنهزم تحت ضغط ظلال الليل.
نحن الآن في موقف المواصلات .. موقف المواصلات الذي يمتلئ بالآف البشر ويخلو من أهم عامل حيوي فيه .. المواصلات نفسها ... وحين تأتي أخيرا حافلة تسع لثلاثين راكبا لتجد أمامها 8768940386038 راكب فأنت لا تملك أي خيار غير الصراع ...
الصراع الرهيب من أجل أن تجد موطئ قدم بالداخل لتعود لبيتك منهكا لتنام وتصحو صباحا لتعيد نفس السيناريو في اليوم التالي .. قديما كنت أكره مقاعد النص كما يكرهها كل الناس ، ولكن الآن لو وجدت مقعدا أسفل الحافلة و(العادم ) ينفث دخانه في أنفي مباشرة لوافقت بلا تردد ..
أمام الأزمة تموت الإختيارات كما تموت المرؤة لهذا ترى الحافة تغادر مليئة بالرجال والنسوة والفتيات ينظرن لها بحسرة ... هذا هو الركن الضيق الذي يحصرنا فيه سادتنا ... لقد سلبونا كل شئ ... كل شئ .. مالنا وما علينا والآن ينهشون حتى في الأخلاق ... وأجلس أنا في مقعد النص محصورا بين رجل خمسيني وبين شاب عشريني ... أجلس بين جيلين وأفكر : ماذا أصاب الناس في بلدي ؟ سألت الرجل :
- الأزمة دي حتستمر لمتين ؟
رد لي بزهج :
- ما عارف والله ياخ ديل كرهونا حياتنا ومماتنا زاتو .. أسعار نار ومواصلات مافي وخدمات زي الزفت ... ربنا يورينا فيهم يوم.
قالها بكل الحقد والمرارة في أعماقه وبعدها أخرج جريدة وبدأ يقرأ .. نظرت للجريدة فإذا بها أكثر الصحف إنتشارا وإنتماء لمن كان يسبهم قبل قليل .... نظرت له مشدوها لأجد الصف الطويل على يميني كله ممسكا بذات الجريدة ويقرأ بإستمتاع عن ( تحسن الأووضاع المحتمل وعن إنخفاض سعر الدولار وعن أطنان الذهب التي تم إكتشافها وعن وعن ألاف الأوهام اليومية التي يبيعونها للناس على الورق ... نظرت للصف اليسار لأجد الصف كله منهمكا مع جريدة ( قوون) وشطب فلان وتسجيل علان ... ما هذا الذي يحدث ؟ .. أمس تم قتل أربعة طلاب وتم رمى جثثهم كالكلاب الضالة في الترعة ولكني لا أري شعرة تهتز في رأس مواطن ... الطلاب يخرجون ويتظاهرون فينفرد بهم الأمن ويفترسهم بمنتهى الهدوء ولكن لا أثر لكل هذا على الجرائد أو على الوجوه ... أين ذهب جيل البطولات الذي ألتقى بجيل التضحيات ؟ أنا أعرف أين ذهب ..
عبر ثلاثة وعشرين عاما تم الفصل ما بين الجيلين وصناعة ذلك الحاجز العصي على التكسير .. فهم بارعون في الفصل على كل حال ... صوت هاتف صيني عالي جدا يرن والرجل خلفي يرد بأعلى صوته :
- أيوا يا فتحي .. ما عايز كلام في الموضوع .. قول ليها أرجعي البيت أحسن ليك
فتحي يرد بصوت يجعل كل من في الحافلة يسمعه :
- كلمتها والله وقالت إلا تجي إنت ذاتك
ألخ ألخ .. الحافة مكان مناسب فعلا لتبادل هذه الأسرار الأسرية الظريفة ... المقعد الخلفي كله كان مليئا بالحبش ... أرحمني يارب وأجعلني أصل لمحطتي بسرعة ... هانذا أنزل عابرا الرجال الحانقين على الوضع وراضون به ، والشباب الضائعين في أزمة التسجيلات والغائبون في عالم آخر خلف كيبات هواتفهم والمتحضرين الذين لايناقشون أسرارهم في المواصلات والحبش الذين صاروا أهل دار وعز وأفتخار وحتى الكتاب الساخرين عديمي الموضوع ( هذا كان ينظر لي في المرآة ) .. وأنا أنزل سمعت راديو الحافلة وبه صوت فنان يترنم بأمجاد أناس آخرون .. أمة غابرة إنقرضت ..
كان يقول :
ولو ما كنت من زي ديلا
وا أسفاي وا ماساتي وا ذلي
هل تمزح معي ؟ من هؤلاء ؟ من هؤلاء ؟
تردد التساؤل داخلي ولكن الكمساري أجابني بطريقة بليغة وهو يشير للحافلة المتحركة صائحا :
- شعبي .. شعبي.
كسرة :
إلى الأستاذ العظيم : الفاتح جبرا الذي أنتزع من قلب شر البلية بسمة وضحكة ساخرة وخلد الأدب الساخر في وطننا الملئ بشر البلية .. في الذكرى السنوية لكسرته الثابتة ونفخه في القربة المقدودة ، دعونا كلنا ننفخ معه ونقول :
- أخبار خط هيثرو ( شنو وووووووووووووووووووووووو ).
_______