عيال دغور.. ساق الشوق الهطيط
حنينة هى تلك الأيام التي كانت تقود خطاهم كل صباح من قلعتهم مرورا بتلك الانسام الباردة حيناً والحارة حيناً آخر على مبعدة من جبانة قوز هندي برهة أن تضعهم على مقربة من بيت المناصير.. أياديهم مثقلة بـ(جنا الجداد) وسعن اللبن الرائب وزجاجة السمن المحلوب من ماعز الحياة والمرجوج بالسواعد الفتية.. وقلوبهم العامرة بالمحبة والصدق خير دليل بين وهج قيزان الرمال المبعثرة هنا وهناك.. والعابرون يتصفحونها عن بعد وعن قرب بنظرة واحدة لا تتغير..
جدتي فاطمة بت احمد طه كانت عندهم كل شيء ومقصد رحلتهم اليومية القصيرة في الصباحات الندية؛ ومحور الرحى وتنور قناديل ذراهم المسدول على قارعة حياتهم؛ محمصة وقمحية اللون تأتي في قصصهم النهارية المغمولة في جوف البيوت الطينية كأبهى عروس في حلتها البنفسجية.. والسوس لا يتسلل الى سنابل يقينهم النضيرة ولا إلى ساق بيت دغور الهطيط..
جدى احمد ود طه ود عمر ود دغور وجدتي دار النعيم بت نصر ود عمر ود دغور على عناق الخطوة والحجل على الرجل لا يفترقان حتى في شهيق تنفسهما اللطيف وزفيرهما الدافيء.. متلاصقين كـ(بيتى الشاتي وامينة بت أحمد ود دهر المنسي) بينهما فالق رمل البلد الطيب ومشارع من المودة تتسع لكل القلوب وقوز الرماد الممتد على لسان شارع لواري أم درمان الوحيد.. ما بين بوابات الشهيق والزفير تدور أفلاكهم متشابكة حيث تلتحم الارواح الطيبة، خيطا بسداة، وتتجاذب وتتنافر كقطبى المغنطيس منذ ميلادهما في بيوضة ربما في وادي إيد القاضي أو اب قِيع أو ام حنضل أو نشكي أو ابو رِغيوة أو سدرية فالمهم إكتحلت عيونهم لأول مرة بحجر في تلك الأرض الشاسعة كأحداق عيونهم الواسعة التي احتملت الصهد والسموم وشمس اليوم الذي أبصروا فيه بيوضة..
أعتقد وحتى الساعة ما يزال جدى وجدتي يحتفظون بالكثير من بشاشتهم واشراقهم لو استطعت أن اقترب من الجبانة لأرى رمسيهما الطاهرين على تربة قوز هندي الغالية بجوار تلك الدومة المقدسة والصاعدة بعنقها إلى السماء.. أنفاسهم الهادئة والصادقة تتجلي كعنوان منمق ومسطور بماء الذهب لحياتهم الباذخة.. وتلك المشاوير الحفية بالمحنة والسمو وعزة النفس الأبية..
كعادته، حين يكون منتشياً بمشروب الفرح الروحي، إنسربت منه فجأة ضحكة مجلجلة ملأت فضاء المكان حتى تداعت كموجة إثر موجة على سهلة بيوت أولاد جبرين وتجمعت وهبطت كنقاط المطر على ميزاب بيت على ود فضل الله وستنا حليم حتى تسامت كأرواحهم البضة وتلاقت بين آناء الليل وأطراف غفوة النهارات الطيبة.. ولجدتنا غرام ومودة لطيورها الأنيسة صحبة عمرها المديد وللـ(عليها) الحمش صاحب أجمل رفقة ثنائية لليلاه الفارعة؛ ستنا حليم.
- انت دحين يا دار النعيم.. عمنول وقت طهورة عبد اللطيف دا فاطني دي ما ادتك باقة صغيروني فيها موية زمزم..
- اي والله هى ما موية العافية والحياة.. يسعلني الله ما ودرت مني السهراجة والرطوبة لى يومي دا تاني ما جاتني يابو هاشم..
- على ود درو راجلا ما ساهل والله لما جاني وقال عاوز فاطني دي .. يمين الله الدنيا بقت واسعة كانوا سعية بيوضة دي كلها حقتي وقربت اطير من الفرح..
- اي والله حاج على النسيب الزين والمالي مركزو لا يغلط ولا يقولك كلام ما في محلو..
- على دا غايتو الزيو قلاقل.. عمرو ما قالو كلاما شينا..
- هو يلقالو وقتا وين مع بوغاتو الكتااار ديل وسقاية شتلو؟
الله يدي العافية قدر قدرتو وسندو للمساكين..
- على شوف عيني ساعة يدي زول بالدس وان شاف زول يتضايق والله فاطني بتي ما عارفه انو يدو ممدودة للبعيد والقريب..
- الراجل ما كريم وبيتو مفتوح.. عمرو ما رجعلو زولا دقو بابو.. مرات تضيق بى الدنيا ما الاقى نفسي الا قدامو واقف وهو ماسكلو منجل.. اخجل اقولو مغروض فيك.. يحس بي.. قبال اسالو.. يقول لي تعال لاحقني عند مخزني التحت..
صمت مثقل بأشباح صديقة وأرواح طيبة وروائح شتى في البيت القديم يقابله صوت صغار يساومون السر في علبة من الطحنية بقدر آمالهم المكتنزة على صدورهم العالية والروح التي لا تهزمها فقدان معلقة من الحلوى تكون قد اندلقت على الرمل الناعم لخطأ في الحساب وأجر المناولة.. وهسهسة صفق النيم تشعل المكان بالرعب والغربة في غدوها ورواحها في فضاء الحوش ولا تستكين وتهدأ الا بمقربة من المخزن العتيق.
تلحقه دار النعيم عند حرازة الروح حتى تقيل عثرة بعيره وترفع عنه كلفة الرهق بمقدار طاقة حركت جفونها إلى الأعلى حتى صاحت: يا صباح الخير شن دهاك واخرك لا عند الساعة دي!! قت اقفرك قبل الحر يدهدهك.
ضجيج يعلو ويخفت كهدير التساب وتلك الامواج التي تسافر في نشيج الأشواق وتغفو على كفوف النيل وبيوضة تعجز بصمتها الرزين عن البوح لفرط الحب الذي جمع بين عاشقين اكتفوا برحابة ظلال عشرتهم المجيدة بين الناس وسبائط حنينهم المتدلية والتي كستهم وقار وسكينة.
والبيوت تمتد في تلك الدروب كما الانسام التي لا تعرف الراحة ما بين غيمة ودعاش.. وتدر يا حالب الأيام وساقية الحب بلا تدليك وترطيب وطبطبة ودغدغة فضرع ناقتك وماعز دار النعيم يفيض بخير دون إبساس وبو.
أشتهيك ضحكة طفلة مغسولة بين يدي الزمان الجميل واشتهيك تطرد عنا دمس الحال بتفاصيل بيوضة الصفراء والخضراء والبحر وسيرة العربان في حقول السيسبان وانت قلق بوصال الحبيبة.. واشتهيك وانت بين نضارة البرسيم في حفل طهورته البنفسجية.. واشتهيك روضة غناء لا تضارع حقول صمتي ولا قوز الشقاقير ولا مترة سر الختم ود حمري وذلك الوادي المتناسل على مهل عميق كإشتهاء الغيم وبنات العرب والجنيات في احتشادهن لإستقبال بص جاهوري في انينه اليومي.. وفجأة من بين عصب دوم المهاجر يصحو مارد البيان الأبيض وبراد طلس موغل في البياض والموت يشتبك في حجاج ولجاج مع بامسيكة القرض ود بت كرفس واحيانا ورل الظنون واظن قاسم ود سعيد حبيبنا في الخباء يمارس سره المقدس ويغرس فسيلة تموره الغراء ويمضي بلا ضوضاء.. هكذا جاء وغاب عنا القمر مع مغيب شمس ساقية ود المرين يومئذ والناس في يم الدمع الهتون وفي بيدر رحلته ومثوى مروره الأخير عند لافتة مركوزة بالقرب من حوش السورجاب.. خض لبنه وسال سمنه وبكى فاجعة رحيله البغتة بلا وداع.. ونحن في محاورة الندى نستجدي عادتنا المقيتة لنحصل على نقود لشراء مستلزمات العيد؛ حذاء وجلباب وقارورة عطر.
وجدي ينسج بعض بشارة لوعد قادم من بين طيات عشميق الأمل ويسرج شمعته لرحى العشق الليلي وتفاصيل ما وراء قوز الحنين.. ينتظر أن ينقطع سابلة الطريق وأصوات الجندب حتى يلح في الدعاء وحميم التراتيل.
وفي جوف العتامير تصحو الأشواق على سعة من حياة عامرة ومصونة بعفة القمر الذي لا يضاجع الليل على أوراق عرفية وشهادات مؤقتة ومختومة على خطوط الرَّاحة وهكذا تسافر دار النعيم في شخاليب تيارها العطري وتذوب كحلاوة قطن وتضيع في براح سفرها الأنيق.. تبروقة وركوة عشق مطهمة بسبلات هجيجها وبتلات ورعها.
وجدي شاهدا على جوع الأمنيات العجاف ما قبل تاريخ نوبته الأولى وعبد الرحمن المهاجر يستعصم بغيابه وسره المعطون تحت جذع دومة إحتضرت بفعل مشاط خطوط النار الذي امتد الى ضفائرها ونار مساءات البلد في أزمنة مهرجان الفطير والحليب.. وقتها أعلن جدي على ودرو حربه الضروس ضد أناث الدوم لينزع غلالة أرض السورجاب ويعريها لمرور مراحات عرب بيوضة وقافلة آل دغور.. وتموت بعض أشجار دوم المهاجر وتضمحل نضارتها ونداوة خوصها وأطفالها الزغب المتلفون حول شوكتها البصيرة.
والقوافل لا تتوقف بمحاذاة النهر وتلك السواقي التي أزهرت وعطرت دروب كل العاشقين العابرون لدومة حفير البلد الكبير.. وردوا النيل واغتسلوا وتطهروا واعلنوا سيرة حزب الموحدين وامتشقوا الندى وسيرورة زفة عاشقين رهاف في بيت آل دغور.. والليلة عريسنا سار للبحر وقطع جرايد النخل.. وفي النخلة نهار يتسع لحب لا يزال يسري بتلك الناحية.
وكان يوما لا يزال محتشدا بزقزقة صغار يتحلقون حول فانوس الانتظار.. وحزم النال تتراقص على ضوء الوجوه كلون العسجد وأبواب قوس قزح المفتوحة على أفق بيوضة التي تشهد فجر خلاصها الشبق الرفيع.
ضرير الرمل في سمر الحكاوى يسترق السمع بخفة روحه المعتادة ورهافة حسه الكتانية ورقة شعوره المتناهية كبقايا حبل دوم جديد يرنو الى الدنيا بعد فوات القافلة.
كفيف شفيف من ورع اليقين لا يتجرع الموت ولا يحتسي كأس ندامى السموم الروحية.. والناس وقتها في الفرح الكبير ينشدون على أكتافهم الجسورة زهو أغصان الجروف الخضراء وهم يعبرون بين تقانت الأرض.
دار النعيم بخفرها المعهود وجمالها الفاتن تشير بيدها الممدودة الى خصيب البرسيم وبعض جذور سعدة تنتهي الى طيب الخدم كما يقولون أوان جلجلة الذات الوطنية المرهقة بحرب الانسان ضد الانسان في اللاشيء.. وشجرة الفاس تمد سرها الجذاب الى فتيلة حيلتها كما القنفذ ولا تلوي على شيء سوى بعض كمون تريده لبعض الوقت ونحن نشكر لها جلال سجودها في افياء ظلها الميمون.
وجزيرة العرس تمضي بين الرؤيا والرؤية وتمنح الحضور اتساع البصر والبصيرة وتتقدم نياق الفرح ومسيرات الهمبى في مدها وجزرها ألوان من حرير وجرتق وقرمصيص على مدى الأفق المنشور والمشوب بالسكون وثمرة قنص لرحلة طال حافرها على على حفائر الروح وسراب بيوضة وومضتها الفالتة.
وجدي ممتن للأرض وأصحاب الدار وعراقتها إذ يحبها بعمق نادر كحال قلبه المغروم بنعيمه.. يمضي هنا وهناك ويرسم على لسان البحر حدودا جديدة لمملكته وبعض نثار عالق في الجوف.
وأخيراً أحاط نفسه بزهرة الصبار وحبل متين من روحه الصاعدة الى القلب.. وسعى حول مسرى مجرة الأيام والوعود النبيلة وطاف وانتهى الى دار النعيم.