قاسم ابوزيد في لقاء على هامش ملتقى الأديب الطيب صالح بالمنامة:
طول عمري (بكش) من تدخل السياسيين في الثقافة
طرح أوراق علمية متخصصة رؤية جانبها الصوابالحوار مع مثقف شامل وفي ذات الوقت متخصصاً علمياً في الدراما والشعر والإخراج الإذاعي والتلفزيوني، حواراً ربما يوقعك في فخ الارتباك عن كثير مما تود أن تطرحه من أسئلة عميقة كما تظن، يمكن أن نقول: ابو القاسم ابو زيد، مسرحي على درجة كبيرة من الوعى من إجادة إستخدام أدواته في الحفر المعرفي، يجيد ناصية الحكي باسلوب درامي فذ، يتخذ من مسرح الرجل الواحد والمتجول إنطلاقاً لكل أفكاره التي يسعى بإجتهاد كبير لطرحها وتنفيذها، لا يتردد لحظة في إغتنام أي فرصة تلوح له في الأفق ولو كانت فكرة شاردة أو عابرة لمحيطه، ينتبه عميقاً لكل المشاهد التي حول أقطار دائرته وخارجها، وبهذه المناسبة دعونا أن نقول: جاءت به الصدفة إلى منامة البحرين مؤخرا، منها شارك في ملتقى الأديب الراحل الطيب صالح، وكان نجمه الأوحد داخل القاعة وخارجها؛ قدم محاضرة نالت إستحسان جماهير النادي السوداني، ومن خلال وجوده إستلهم فكرة رائعة ونفذها في حينها، الآن كما أعرف يتاهب للإنتهاء من فيلمه (البحرين بعيون سودانية)، التقيناها في حوار فتح أسئلة جديدة وجرئية تتسع لقراءة أدب الطيب صالح من زاوية أخرى.
فماذا دار بيننا حول ملتقى الطيب صالح والفعل الدرامي في أدبه:
حوار: ناصر البهدير
حدثنا عن إنطباعك الخاص عن الملتقى بوصفك مشاركاً في فعاليات ملتقى الأديب الراحل الطيب صالح بتقديم مشاهد من فيلم وثائقي لم يحظ بالعرض حتى الآن؟أعتقد إن قيام ملتقى يخص الأديب الطيب صالح فكرة مميزة ومختلفة، وتعني إضافة بالنسبة للسودانيين في البحرين إلى جانب مملكة البحرين.. لم يكن الشكل التنظيمي والحضور الجماهيري بالمستوى المطلوب، ربما غياب الإعلانات على مستوى الصحف المحلية والشوارع الرئيسة إضافة إلى الملصقات لعب دورا في ذلك. أما إختيار عنوانين الأوراق المقدمة كان بمستوى جيد جدا، ولكن مسألة طرح أوراق متخصصة على مستوى الجمهور أو مستوى جمهور كبير جدا لم يجانبه الصواب، على الأقل كان من المفترض أن تطرح مثل هذه الأوراق العلمية الخاصة داخل ورش مهنية حصرا على المتخصصين، أما طرحها في فعالية عامة يجب أن يكون إختيار المواضيع أقرب للجمهور منها للموضوعات الخاصة العلمية، لذا كان القليل من الحضور مطلع على الأوراق أما الجمهور ليس له علاقة البتة بالاوراق، فكان تلخيصها في زمن وجيز لم يتجاوز الربع ساعة رغم أن المتحدثون حاولوا بقدر الإمكان أن يجعلوا من التلخيص مادة مفيدة .. عموما أتمنى للقائمين على أمر الملتقى في مركز كانو الثقافية بالبحرين والنادي السوداني كل التوفيق وأن يفتح الجميع نوافذ أخرى ليس فقط متعلقة بالطيب صالح فقط، ممكن أن تكون بالنسبة لروائيين عالميين وكتاب وشعراء وسياسيين عندهم القدرة على التصور والإبتكار وتحليل العالم كله، ووضع رؤية مستقبلية للسودان.
ماذا إفتقدت في الملتقى وكنت تتمنى أن تقف عليه كجزء مكمل للمشهد العام للفعالية؟الجانب الآخر والمهم من الفعالية كنا نتمنى أن نقيف على قراءات جديدة بالنسبة للطيب صالح كروائي وإضافات جديدة وأن تفتتح محاور لم تناقش من قبل خاصة على مستوى الكتابة، لأن الطيب صالح كروائي ما زالت رواياته قابلة للدراسة والتحليل بشكل علمي اذا اتفق الناس على أن يتناولوا موضوعات غير مطروقة ليس موضوعات تقليدية .. لكن عموما الملتقى كان فيه حضور مميز على مستوى الحوارات والفرص التي كانت محدودة بالنسبة للجمهور، مع ذلك طرحت أفكار جديدة خاصة الذين اعتبروا الطيب صالح من التنويرين ليس خصما على صفته الروائية أي دمغه بصفة المفكر الذي يمتلك القدرة العالية جدا على عمل تصورات لمشاريع ضخمة لوطن صغير ومشاريع للانسان على مستوى السودان لكن من خلال المحلية والقراءة أو تقديم الشخصية السودانية في مناخ بيئتها المحلية، باعتبار قدرتها على النفاذ الى العالمية، وهذا يتأتى من الأغراق في المحلية، وفي إطار قضايا الانسان مثل جورج امادو وماركيز وغيرهم من الروائيين العالميين الذين كانوا ملتصقين بقضاياهم المحلية .. الشيء الأخر والمهم، يجب إشراك أخرين في الفعاليات وكما لا يجب إغفال دور النقاد الشباب، وفي هذا الملتقى لم أر تمثيل بالنسبة للأقلام الجديدة الشابة التي تمتلك القدرة على عمل تصورات جديدة مثل الناقد مصعب الصاوي واحمد عبد المكرم، وهؤلاء لديهم تصورات وقراءات جديدة بالنسبة للطيب صالح.
ما مدى ملاحظتكم للإلتفاف السياسي حول فعالية الطيب صالح والذي إتخذ كم جانب؟دائما ما يفسد السياسيين الفعاليات الثقافية بمشاركاتهم وتدخلهم فيما لا يعنيهم، كان من المفترض أن يتصفوا بالذكاء حتى لا يضع الذي يقف بجوارك وضدك أفكار مسبقة وموقف من الملتقى، وهذا يؤثر سلباً على الحضور وموقف الناس رغم أن مواقف الطيب صالح السياسية واضحة، لكن لا أحبذ دائماً وجود السياسيين وإستغلالهم لتلك الفعاليات الثقافية، وهذا يسبب لي حساسية (يعني بكش من المسألة دي)، لأننا نحن لا نميل للمشاركة في الاحداث والملتقيات السياسية بالمقابل فليتركوا لنا فعالياتنا!
إلى ماذا تعزى إتجاه بعض المشاركون إلى الجانب السياسي في أدب الطيب صالح.. وهل هذا يمثل معارضة فقط أم حديث عن الطيب بكل جوانبه؟بالطبع لم يكن الإتجاه مقصود بقدر ما كان هنالك عدم إتفاق بين المتحدثين، يمكن أن تكون هذا المسالة أتت عرضا أو قام المشاركون بالتركيز على الجانب السياسي دون قصد، رغم أن الطيب صالح طرح هذا الجانب بطريقة مباشرة من خلال المقال الصحفي، لكن كل ذلك وارد بشكل أساسي في كل روايات الطيب صالح خاصة إذا ركزنا على رواية (ضوء البيت) الذي هو في حد ذاته يمثل الطيب صالح، وقد قال الطيب من قبل: "إذا رغب الناس في أن يتحدثوا عن رواياتي فليقروأ ضوء البيت"، أعتقد إن الابداع الذي حدث بالنسبة للطيب صالح ككاتب بالفعل جاء من خلال رواية بندر شاه (ضوء البيت) وهو إمتداداً لـ(مريود) وفعلا إستطاعت رواية (ضوء البيت) أن تتنبئ بحال السودان السياسي أكثر من أي رواية سودانية أخرى، وللطيب صالح قدرة نافذة جدا لتصور واقع الحال السياسي الراهن، وهذ طرحه قبل أربعين سنة، لذا الحديث عن الطيب صالح بشكل مسطح بلا شك فيه مشكلة، حتى لو تكلمنا عن السياسة فلنتكلم عنها بعمق.
ما مدى تقييمكم لمشاركتكم في الملتقى عبر فيلم وثائقي لمدة ساعة هو مختصر من فيلم مدته أربعة ساعات تناول سيرة الطيب صالح؟أعتقد بإن المشاركة كانت طيبة وحققت نجاح، ولقد إستطعنا أن نصنع المختصر المفيد وهو مأخوذ من الأربعة ساعات التلفزيوينة، وجاءت مشاركتنا بشكل غير مقصود، بالفعل حضرنا للأخ بشير محمد صالح شقيق الطيب صالح لمعرفة ملاحظاته الأخيرة على السيرة الذاتية للطيب صالح خاصة الجانب المرتبط به، لسبب ما شوهدت أجزاء من الفيلم في النادي السوداني بالمنامة، وبعد ذلك طلب مننا بأن نشارك بمشاهد بسيطة من هذه الأجزاء الأربعة، وقدموا مقترح عشرين دقيقة للمشاهد، قلنا لهم من الصعب جدا أن تتحول أربعة ساعات إلى عشرين دقيقة، ولكن أخيراً إستطعنا في حدود 55 دقيقة أن نعمل فيلما، ومن ثم أعتمد الفيلم وكانت المشاركة من باب الصدفة ليس إلا، ولكن على أية حال سندع تقييم مادة الفيلم للذين حضروا الملتقى.. عموما عرض الفيلم بطريقة ممتازة نالت إستحسان كثير من الحضور، وكان هذا واضحا من خلال قراءاتنا لإتجاهات الصالة أثناء العرض، وحينها أعترت الصالة حالة من الصمت المهيب، مع أن كل الجلسات رافقها الأنس، وأستمرت حالة الصمت العالي جدا والمتابعة وأعقبها الجميع بتصفيق حار في نهاية الفيلم، وقال بعض الحضور أننا لم نكن نعرف الطيب صالح بهذه الصورة، هذه الليلة وقفنا على جوانب مهمة في حياة الطيب صالح، وحقيقة عرض الفيلم السيرة الذاتية بشكل مرئي في شكل لغة وصورة مختلفة، وكما عرض بشكل فني أكثر من كونه خطابي.
هل لعبت الصدفة دوراً في إرتباط الفيلم بمحاور الملتقى أم كانت هذه المسألة مقصودة؟بالطبع ما حدث كان صدفة، لأن الفيلم في الأساس ليس كان الغرض من تنفيذه المشاركة به في الملتقى كما ذكرت من قبل، ولقد نفذ الفيلم قبل الإتصال بالمشاركين في الملتقى منذ فترة وجاءت إفادات الدرامي على مهدي في الفيلم لإعتبارات أنه بطل لعرس الزين، وأيضا البروفسير على شمو بحكم أنه خبير إعلامي كبير ومتخصص، وشاهد على فترة طويلة من عمل الطيب صالح في الـ(بي بي سي)، وقد لخصت معهم الإفادتين؛ الطيب صالح كروائي وكبني آدم وإذاعي ومعاملته مع الـ (بي بي سي)، وتدرجه من مذيع إلى كبار المذيعين، ومدير برامج وأيضا بإعتباره كمؤسس للدراما بالقسم العربي في الاذاعة البريطانية، وواضع بصمات كبيرة، مما يؤكد حضوره الطاغي، وجاء تركيزي على الإذاعة البريطانية كما ركز عليها البروفسير على شمو في ورقته.
هل لو عرض الفيلم في الجلسة الأولى للملتقى لكان من الممكن أن يكون مؤشر لربكة وحالة من التداخل لإحتواه على بعض أوراق المشاركين التي عرضت؟هذا ما حدث بالضبط، لأن الأوراق التي إستعرضها المشاركين تلاقت مع رؤية الفيلم، ولقد تناولت ورقة الدكتور محمد المهدي بشرى الفولكلور الشعبي في أدب الطيب صالح، ولقد طرح الفيلم بيئة الرواية عند الطيب صالح، والمكان الذي ظهر في الفيلم كان كرمكول الحقيقية التي عاش فيها الطيب صالح والتي ولدت فيها شخصياته وأفكاره وكل أحداث الروايات، ومثلت ود حامد، كرمكول في ذاكرة الطيب صالح، بالنسبة لنا عملنا ملخص مفيد من إفادات البروفسير على شمو والدرامي على مهدي. لكن الزمن المقتضب الذي منح للبروفسير على شمو إستطاع أن يمضي فيه في إتجاه علاقة الطيب صالح بالبـ (بي بي سي)، لأنه شاهد الفيلم ولذا أي شخص حظي برؤية الفيلم قبل عرضه بالضرورة حتى لو أعاد كتابة ورقة جديدة أن ينحى مناحي جانبية من الورقة حتى يتفادى إعادة المعلومات الواردة.
هل تتفق مع تصنيف الطيب صالح كروائي عالمي رغم أنه مقل في كتابة الرواية مقارنة بغزارة إنتاج كتاب الرواية العالمية؟يتحدث بعض الناس عن توقف انتاج الطيب صالح في الكتابة الروائية، وأن كان ذلك عكس ما يحدث، فالطيب صالح لم يتوقف لحظة عن الكتابة، ظل يكتب لأخر وقت من حياته، وهذا ما كان يجسده المقال الراتب في مجلة (المجلة)، وهذا ظهر في إهتمام القراء بشراء المجلة وولعهم بمقال الطيب خاصة بداية قراءة المجلة تكون من الصفحة الأخيرة وهى مكان المقال، وأستفاد الطيب صالح من التقنيات أو الأساليب الروائية الفنية في كتابة المقال، ويأتي إحساسك بالمقال في أنه عبارة عن حكي وقص وتضمنه لغة عالية جدا، إضافة إلى أن المقال مشحون بالعناصر الفنية الدرامية (الأساليب)، زيادة على الأساليب الصحفية المعروفة، وكما استفاد في أن يعمل مزج أو خلط ما بين الاسلوب؛ اسلوبه كروائي واسلوبه كصحفي مثلا، عند وجوده في مطار الخرطوم تجده يحكي عن حال المطار وحال الشعب السوداني وهو راكب التاكسي، وعندما سئل عن حال الشعب السوداني، كانت أجابته للسائق بأن حال الشعب السوداني مثل حال سيارتك، وفي تلك اللحظة كانت تصب الامطار من فوق ظهر السيارة، ويلاحظ أن تلك العوالم ذاتها، إستحضرها الطيب صالح في شكل المقال الصحفي، وهذه كتابات طويلة، وايضا إغراقه في المتنبئ والشرق والغرب، وهذه رؤية إنسان شامل ينظر للعالم بعين عميقة، وفيها قدر من الملاحظة وكثير من التعليل، وقدر من الإختلاق، ونلاحظ أن الطيب صالح عندما يتكلم في (منسي على طريقته الخاصة)، يتحدث عن السياسة العالمية بطريقة غير مباشرة من خلال سرد ومتابعة لشخصية منسي القصير.
هل يمكن الاستفادة من قصة موسم الهجرة إلى الشمال في تدريس فن تكنيك الدراما بوصفك أستاذ للدراما للكثير من المعاهد والجامعات؟نحن نستفيد منها كنموذج للإعداد المسرحي، أي نموذج إستخدام الطيب صالح كروائي لتكنيك المسرح خاصة الحوار، ولقد قام الطيب صالح بعمل حاجة مهمة في تاريخ الرواية وتجسدت في إصراره وإلحاحه في إستخدام العامية المحلية السودانية مع قص أو سردية عالية التقنية، ووظف سرديته من الناحية البلاغية والبيانية وإستخدام المفردة ومن ناحية التجديد، وبهذه المناسبة جدد الطيب صالح على مستوى اللغة السائدة التقليدية، عندما يستحضر حوار مثلا بين ود الرواسي وسعيد تجد أن الكلام مندغم برغم أنك قد تحس فيه فصل ما بين السرد والمشهد، وذلك لأن الطيب صالح متعمق جدا في بناء الخط الدرامي، وتجد الربط دقيق جدا ما بين العامية في الحوار والتعليق أو السرديات، وهنا نجح الطيب صالح بالرغم أنه لم يستخدم التوضيح في الهامش مثل، كلمة (النمتي) ومن خلال السياق حتى لو لم تكن سوداني أو عربي تستطيع أن تفهم المشهد، ولا توجد طريقة غير إستخدام هذا المشهد، وهذه من الأشياء البارزة جدا كتكنيك إستخدمه الطيب صالح، لذا نحن نستخدم المشهد الدرامي المكتمل عند الطيب صالح، وعند إعدادك للرواية، إذا لم تكن بقدر من المهنية والإحترافية العالية، قطعا سيستلبك الطيب صالح وتجد نفسك كررت نفس المشاهد، ولقد وقع الكثير من الدراميين في ذات الفخ، لأن الطيب صالح صاحب لغة قوية، وايضا مشاهد قوية؛ فيها بداية ووسط ونهاية وفيها صراع.
الى مدى استفدت من روايات الطيب صالح في تدريس مادة الدراما؟لقد كان مشروع بحثي للتخرج من معهد الموسيقى والمسرح سابقا عن رواية (ضوء البيت)، وهى رواية الطيب صالح وكان مشروع كبير وملحمة استفدت فيها من كل العوالم المطروحة في الروايات الاخرى، لان روايات الطيب صالح الاربعة تسمى الرواية الكبيرة باعتبار ان الشخوص في تطور مستمر من حياة الى موت، وايضا هنالك تطور للشخصيات نفسها ناخذ مثلا سعيد عشا البايتات الذي انتقل من (حطابي) الى مؤذن حتى تزوج احدى كريمات الناظر، وكانت الاستفادة من تطور الشخصيات في كل الروايات حتى العوالم الموجودة في (ضوء البيت) خاصة عوالم القلعة التي توضح الغريب (بندر شاه) واستطعنا ان نجسدها بشكل كبير في عرض مسرحي في قاعة الصداقة نفذته جماعة السديم المسرحية.
هل لنا أن نتعرف على الدراسات التي تقدم لطالب الدراما ومدى الاستفادة منها بوصفك استاذ للدراما بكليات التربية؟يدرس الطالب مادة التربية المسرحية بجانبيها؛ مستوى الكتابة المسرحية والتعرف على اساليب الكتابة عند الاغريق، والمذاهب التقليدية مرورا بالمدارس التجريدية، والسوريالية، ومدرسة العبث، وغيرها من اساليب الكتابة .. وايضا يُدرس الطالب اساليب الاخراج المسرحي، وتطور العرض المسرحي مع نماذج من بعض المخرجين العالميين خاصة دافسكي، وبريخت، وجرودفسكي وغيرهم بالاضافة الى المقررات المرتطبة بالمسرح التعليمي ..
وتأتي دراسة المناشط مثل التربية الرياضية والمسرحية والموسيقية والفنية وغيرها ضمن المنهج المقرر في معاهد اعداد وتدريب المعلمين التي كانت تقبل معلمي المتوسطة والابتدائي سابقا، وهذه انتقلت الى كليات التربية بالجامعات مثل كلية التربية بجامعة السودان، وكلية التربية بجامعة الخرطوم وتستوعب معلمي الاساس الان .. لابد للطالب ان يختار واحد من هذه المناشط التربوية، منشط اساسي بالنسبة للمواد كلها مادة النشاط بالاضافة الى مادتين، ولقد توسعت مادة النشاط من ثلاث مقررات الى اربعة مقررات يدرس فيها الطالب زيادة على التربية المسرحية (الكتابة وفنون العرض المسرحي)، وايضا اصبحنا ندرس المسرح التعليمي (Theater Education) في ثلاث جوانب مهمة: الجانب الاول هو تدريس التربية المسرحية، والجانب الثاني دراسة مسرحة المناهج والتي يتم فيها تحويل جزئية او وحدة من المنهج الى مسرحية قصيرة لا تتجاوز الست او السبع دقائق وتكون ذات نهاية مفتوحة يؤديها الطلاب، بعد ذلك يفتح نقاش وحوار بين الطلاب في نهاية الوحدة المسرحية القصيرة، وهذ يزيد من وعى الطلاب بالطرق الحديثة وطرق التفكير السليم، ومن ثم تعطيه المعلومة بطريقة ممتعة وغير مباشرة ويكون فيها تبسيط ولا يحس الطالب بتلقي المعلومة من المدرس بالطريقة التقليدية التي يعمل بها في ان يقف ويلقى الدرس على التلميذ، وهنا يتحول التلميذ الى مدرس وهو الذي يعطي المعلومة هو مرسل ومستقبل خاصة الذي يقوم بالدور التمثيلي في منصة القاء الدرس، حتى المشاركين يشتركوا في التمتع بمتعة ماكنيزم التوحد او الاندماج في العمل المسرحي وفي العمل الايهامي، وهذا يحدث للشخص في اندماجه مع القصة اثناء متابعته للمعلومات التي تتسرب رويدا رويدا في عقله الباطني الى الجهاز العصبي التي يحصل لها تعزيز باليات الجهاز نفسه، وتترسخ المعلومة بطريقة غير تقليدية .. والامر الثالث والمهم في المسرح التعليمي ما يسمى بالارشاد النفسي ومعالجة الاضطرابات السلوكية والانفعالية من خلال المسرح والتي تكون في وحدة السايكودراما او العلاج بالدراما وهذه تعالج المشاكل الخطأ مثل المشاكل الفردية من خلال علم النفس الاجتماعي، ومشاكل النفس الاجتماعية التي لها علاقة بالمدرسة او محيطها، ويكون ذلك من خلال اختصاصي المسرح مع الاختصاصي الاجتماعي والنفسي ويتم تنفيذ برامج علاجية مفيدة، ولقد جُربت على مستوى امريكا وانجلترا، ولكن حتى الان ليس لدينا مناهج بهذا القدر، فقط عندنا منهج تعليمي بسيط غير مفعل لمدارس الاساس، لانه في الاساس لا تتوفر كوادر تعليمية، لكن الان كلية الدراما بجامعة النيلين خرجت ثلاث اجيال تلقت تعليم في التربية والمناهج وسايكلوجية الطفل زيادة على فنون الدراما، هؤلاء لهم القدرة على قيادة هذا النشاط داخل مدارس الاساس، وهذا يحتاج لدراسة استراتيجية دقيقة من الدولة لتأسيس المدارس بهذه المناهج، وهذا يساعد بشكل مختلف اضافة الى ان النشاط له القدرة على تربية وتنشئة الجرأة وروح العمل الجماعي وغرس الاعمال الوطنية والارتباط بالارض والانسان، وهذا ما نفقده الى جانب ان المناشط تقوم بشغل اوقات فراغ الطلاب، والتي من خلالها يمكن معالجة العنف الطلابي والظواهر التي تظهر في المجتمع السوداني، لذا للمسرح قدرة عالية جدا للامتصاص بالاضافة الى معالجة المسالة الجهوية خاصة بين طلاب الصف الواحد من خلال اشتراكهم في المنافسات المدرسية الخاصة، ويكون هنا الانتماء لا للقبيلة او العنصر بل الانتماء للمدرسة وهنا تذوب مسألة الجهوية والعنصرية وهذه واحدة من تجليات التربية المسرحية.
ما هى امكانية تطبيق مشروع الدراما على مستوى مدارس الاساس والثانوي والجامعات في ظل الظروف التي تمر بها وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي وما يعتريهما من نقص في الموازنة المالية؟نحن دائما نناشد القائمين على الامر بان يتحركوا في تطبيق البرامج الدرامية، ولقد سبق ان تحدثت في لقاء لقناة الشروق عن ضرورة استعياب الدولة للخريجين في المدارس خاصة في المحليات بدلا عن تخصيص معلم لمدرسة واحدة يجب ان يقوم المعلم بعمل طواف على عدد من المدارس بالمحلية على برنامج محدد من وزارة التربية وليس من ادارة النشاط الطلابي، وان تكون ممنهجة في المقررات نفسها بصفة رسمية داخل الفصل وليس نشاط خارجه، وهذه استراتيجيات دولة لا يستطيع شخص او افراد تحقيقها، لكن على المستوى الاكاديمي لابد من ضرورة تأهيل المدرسين، بعد ذلك المرحلة القادمة هى مرحلة الدولة وليس الافراد، وفي امكاننا الاتصال ببعض المنظمات التي تعمل في مجال التعليم، بعمل ورش، ولقد استوعبت بعض المدرسين الان في واو وملكال وجوبا، وهم مختصين في المسرح يدرسوا ويقوموا بطواف على المدرسين، واتمنى ان تعمم هذه التجربة على كل المدارس السودانية، وكما نامل وجود مدرس موسيقى وفن تشكيلي وتربية فنية وريفية على الاقل في كل مدرسة ابتدائية، لان السودان عبارة عن قرية وحديقة ومنها يمكن الانطلاق نحو افاق التنمية الشاملة، والسودان يمكن ان يكون جنة اذا تعلم الطلاب الصغار عملية الزراعة من خلال عملية البستنة، ولا سيما أن مادة التربية الريفية تعلم كيفية انشأ الحدائق وتزينها، وحقيقة نحن لا نهتم بذلك، اذ لا تزال زراعة الاشجار بطريقة عشوائية مستمرة حتى تحديد نوعيتها، الان توجد نهضة في الزراعة والتشجير، وبدأت المؤسسات اللصيقة تثقف الناس لكن الامر محتاج الى قدر عالي جدا من البرامج والخطط، اضافة الى قوة القرارات ليس قرارات على مستوى الدولة مثل قرار إقرار التربية الرياضية بل على مستوى تنزيل القرار الى الجهات التنفيذية، وهذا يحتاج الى جهد عالي من السياسين والقائمين على وزارة التربية والتعليم نفسها، لاننا نحن الان لا نتكلم عن المسرح الجامعي فقط بل عن المسرح ما قبل المدرسي ومسرح رياض الاطفال وطلاب الاساس والمسرح الثانوي والجامعي، وهذا ما نسميه المسرح التعليمي، وهنا نعد الفرد في كل جوانبه الاجتماعية والنفسية والتربوية لكى يكون على استعداد لان ينخرط في منظومة المجتمع ولا ينفلت منها، ويصبح انسان صالح غير ضار.
هل تلعب الدولة من وجهة نظركم دوراً سلبياً تجاه بعض المناهج الدرامية على المستوى التعليمي باهتمامها الضعيف بالدراما؟لا أعتقد بأن إهتمام الدولة ضعيف بالفنون عموما بالرغم من وجود كلية للفنون لها عشرات السنين، لكن تكمن العلة في عدم دراسة الامر وتنفيذه بطريقة سليمة رغم ان المناهج موجودة وتدرس في الجامعات، ويمكن هذا لا يكفي، بمعنى اننا نحن محتاجين لنظرة جادة جدا من الدولة، دعني اقول لك بكل صراحة كمقاربة لما اتحدث عنه: ما زال تلفزيون جمهورية السودان للسنة الثالثة على التوالي لا ينتج عملا دراميا كبيرا مثل المسلسلات، فقط لان القرار بيد المدير، وليس له علاقة بسياسة الدولة. وايضا للدولة ثلاث كليات للدراما والمسرح في جامعة جوبا والنيلين والسودان للعلوم والتكنلوجيا، ومع ذلك، الدولة لا تستوعب خريجي هذه الجامعات، لذا نقول يجب ان تغلق هذه الكليات اذا ظلت الامور تسير بهذا النهج. كل تلفزيونات العالم تحتفي بالدراما، فلماذا نحن نشتري الدراما المستوردة؟ صحيح ان صناعة الدراما المحلية تكلفتها اكثر من المستوردة لكن يجب الا تنسى انت تساهم في صناعة ثقافتك ومفاهيمك وقيمك ليس بتقديم قيم الاخرين، وهذا مسالة لا تجد الانتباه من أحد.
هل قاد فهم خطورة الفعل الدرامي وسط الجهات النافذة بالدولة من تقليل الاهتمام بالدراما رغم ان الدولة تولي عناية كبيرة لاشياء غير مهمة؟
لا أعتقد ان الدولة تعي فهم خطورة الدراما كما قلت ولو تدري لعالجت ذلك باليات ولجان النصوص والمشاهدة لضبط المادة و(فلترتها)، فلنتفق كلنا في ان كل مشكلات المجتمع السوداني الاساسية محتاجة الى تركيز (high focus) ورفع الوعى وان يسلط عليها الضوء وهذه مسالة مهمة، نحن متفقين ولم نختلف، وهذا تكملة لحديثي لقناة الشروق: (ما داير اختلف معاك كحكومة لكن نتفق على موضوعات مركزية واساسية في حال السودان سواء كان الحال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وغيره) .. نتفق بان تطرح الموضوعات للكتاب وثم نبدأ معالجتها، واختلافنا ليس في كل الموضوعات والقضايا. لا توجد استراتيجية ثابتة للتلفزيون وكل الامر مرتبط بتغيير المدير، فالتغيير يلازمه تغيير الخارطة البرامجية كلها بالرغم انها تنفذ بعد دراسات وبحوث لمنتجي التلفزيون من خلال التغذية الراجعة (feedback).. حتى اذا تجاوزنا مسالة تغيير المدير نلاحظ بعد تنفيذ الخطط مظاهر العشوائية والتجاوز في عرض المواد، لان الامر برمته مربوط بمزاج وراى المدير، وثم علاقة المدير بالجهات السياسية (دا كلام تاني وكلام طويل جدا) ..
هذا يرجعنا الى مسالة التخصص، فليبقى السياسي في السياسة دون تدخل من احد، اذن التربويين في التربية والتعليم منهم المختصون في المناهج والتربية ودراسات الاطفال والدراسات الانسانية (الانثربولوجي) وهذا مجالهم في وضع مناهج محترمة ولها القدرة على مسايرة العالم، وتغطية احتياجات الطفل او التلميذ، لذا من الضروري الفصل ما بين السياسي والدرامي، فلكل مهمة يؤديها فليتفق الجميع على الموضوعات، وليبقى الذي ينجز مشروعه هو الدرامي وهذا اختصاصه .. هكذا الحياة تسير في العالم مثلا في انجلترا، وزارة التربية والتعليم ليست لها علاقة بسياسة الدولة وشؤون الملكة، الكل في برنامجه، وتجلى اهتمام الساسة بشؤونهم في الحرب العالمية الثانية، لقد اجتمع رئيس الوزراء ونستون تشرشل مع الوزراء وكان اول حديث له، سال وزير التربية والتعليم عن كيف يسير أمر التعليم، فكان رد الوزير: الامر جيد يا سيدي الرئيس .. وقال تشرشل: اذن سننتصر .. وتبقى القضية المركزية الاساسية في الحياة هى التعليم، والرسول صلى الله عليه وسلم، قال: "اذا اردت الدنيا فعليك بالعلم، واذا اردت الأخرة فعليك بالعلم، واذا اردتهما معا فعليك بالعلم". اذن المنطلق الاساسي لنا يكون في التربية والتعليم لكن بدون تدخلات الساسة، (فلنترك الخبز لخبازه)، ودائما مناشدتنا نبنيها على عدم حدوث خلط بين القضايا، فلماذا يقوم السياسي بالتدخل فيما لا يعنيه ويخصه؟ .. (كلو زول يقعد في حتتو) وهذا من منطلق إعمال السنة النبوية واذا رأيت شخص أفضل منك لادارة الموقع من المفترض شرعياً أن تترك له المكان (اذا اى زول ملأ مواعينو افتكر انو نحن بنمشي نعمل حياة)، لكن طالما السياسي بإستمرار هو المتسلط، وهو الذي لا يسمع حديث الآخرين، لن نتطور.
ما تعليقك على مشروع الدولة في صياغة اعادة الانسان السوداني، وهذا ما يؤكد بان السياسي هو الذي يحدد دور التربية والدراما من خلال المشاريع المطروحة؟دائما ما أقول أن إي مشروع خارج ثقافة الانسان على مستوى العالم كله، سيكون بدون ركائز ولا علاقة تربطه بثقافة المجتمع ومعتقداته وحياته، لا شك أن المشروع زائل مثله مثل إي ظاهرة تزول بسرعة، لكن المشاريع المؤسسة هى المبنية على ثقافة الشعوب، أى لا داعي لنقل ثقافة الشعب لتزرعها في الاغاني الجهادية واناشيد الدفاع الشعبي المصنوعة، لان الفن الصادق ينبع من صدق الانسان في علاقته بالبيئة والقيم، وهذا نوع من التفاعل والإختمار، وينتج هذا من خلال تجارب وطرح ثقافي بدون سطوة وإحتراب ثقافي لأن هنالك يحدث تلاقح وتلاقي بين الثقافات خاصة في أجواء الديمقراطية والحرية. يجب أن يؤمن الجميع بحرية الآخرين، مثل ما تملك الدولة مشروع يجب أن تعطي الآخرين مساحة ليطرحوا مشاريعهم، والمشروع الناجح هو الذي يمضي لأنه مربوط بثقافة متجذرة .. الرسالة المحمدية نزلت على ثقافة موجودة في الجزيرة العربية، ولقد عدل الرسول (ص) الكثير من المفاهيم والمعتقدات القديمة، لكن إعتمد على الثقافة التي كانت سائدة في المنطقة العربية وغيرها، ولكن العمل من خلال الاستراتيجيات والعنجهية (صدقني مشاريعك دي ما بتمشي لى قدام) يمكن بالضغط والبندقية، وبما أنك صاحب سلطة تكون كل برامج التلفزيون والاذاعة على حسابك، لكن (once day) الناس بسكتوا ويحصل ليهم ركون)، وهذا لا يعني الموات بأي شكل من الأشكال وقد يكون السكون سيد الموقف لكن يصاحبه تفكير عميق جدا، (الزول دا بعاين ليك لكن "once" جات اللحظة المناسبة هو ح ينفجر وح يوصل مشروعو المختلف جدا عنك) .. ويموت حينها مشروعك ويضرب به عرض الحائط، وتكون أنت الخاسر لأنك لم تستطع أن تؤسس لشيء ثابت رغم الجهد العالي المبذول، والخسارة المالية الفادحة، كان من الممكن أن تنفق على تأسيس مباني وشوراع بدلا من ثراء كثير من الناس منها، لكن في النهاية مشروعك لن ينجح بالغاء ثقافة الآخرين، وثقافة جديدة منبتة لا أصل لها ولا جذور، وهذا لن يحدث وتاريخ الثقافة والفن يشهد بذلك، صحيح شاهدنا أشياء مثل هذه تحدث من السلطات بشكل ديكتاتوري جدا لكن كلها أنهارت، لذا نحن ليس منزعجين بتاتا، أتوقع بأن تشكل لجان بالنسبة لإستراتيجيات التعليم من علماء وخبراء في مجال الدراما ليضعوا منهج تعليمي، لأن في نهاية الأمر المقصود إستهداف الانسان عبر المنهج التعليمي الطويل المدى، بالتأكيد ستظهر النتائج بعد عشرين سنة لكن حتما ستجني جينات ثمار أصيلة خالية من الأمراض ذات ديمومة عالية جدا، وهذا نتاج دراسات وبحوث، وأعتقد أن أبناء السودان في الداخل والخارج من الممكن أن يعودوا إلى البلاد ويساهموا في هذه المشاريع إذا أحسوا بجدية المشاريع السياسية.
ما هى تحديات الدراما في السودان من خلال قراءتك للواقع؟أعتقد من خلال ما ذكرته لك، يجب أن تفرد ميزانيات وأن توضع إستراتيجيات واضحة لا تكون قائمة ومرتكزة على الرؤساء بقدر ما هى قائمة على الدراميين أنفسهم وأن يفتحوا الفرص لأهل الاختصاص بالقيام بمشاريع ملزمة في الخارطة البرامجية والمسارح وغيرها من دور المسرح التعليمية، وأن تساهم الدولة في صناعة الفنون لأنها أصبحت تصنع (making)، والسودان بلد ثر لم ينفتح على الأخرين بعد، وفيه مختلف الالوان الثقافية والاثنية والعرقية والتنوع المناخي الذي أفرز العديد من الأغاني والرقصات والثقافات المختلفة، نحن لنا بيئة تمكننا أن نقدم الفيلم السينمائي والتلفزيوني والقصيدة وأشياء كثيرة ومفيدة.
ملوحظة: نشر هذا الحوار من قبل في صحيفة الحقيقة السودانية منتصف العام الماضي.