ناصر البهدير مدير عام سابق
عدد المساهمات : 3674 نقطة : 16598 تاريخ التسجيل : 30/01/2010 العمر : 55 الموقع : البحرين
| موضوع: وجه الغياب في رواية: (إيقاع العودة) الخميس 29 يناير 2015, 11:47 am | |
| [rtl] وجه الغياب في رواية: (إيقاع العودة) ترى ما يمكن القول في رواية أراد لها كاتبها أن تكون محاكمة صارمة لقضايا عدة، لا تزال تكبل خطو البشرية، وتجعلها ترسف في الأغلال ونير الإستبداد والتسلط؟ إن الحقيقة التي لا جدال حولها أن الرواية قدمت مرافعة تفضح خونة الإنسانية وتعريهم وتصلبهم على خشبة المسرح كما انها توغلت عميقاً في الغياب بأشكاله المختلفة.يشتمّ القارئ في أحداث (إيقاع العودة) الكثير من الذكاء الوقاد والحيل الإبداعية التي توارى خلفها الكاتب بمهارة صنعت من النص حياة مشتعلة بالحراك رغم سيرة الموت التي - ظللت مساحاتها - تزداد شبراً بعد شبر بالتوازي مع حياة مفعمة بالأمل والعطاء.أما ما كشفته حالة الغياب لعدد من الشخوص في النص على خلفية التداعي المستمر لأحداث الرواية في كل منعطف، أثر على نحو ما في السرد من خلال توظيفه بذهنية الشخص المثقف والمتعالي على مجتمعه بالمعرفة.في سياقها السردي تروي القصة مصائر عدد من الفنانين من مختلف ضروب الفن التقوا كأصدقاء في الغربة التي حاصرتهم في إطار القضايا الوجودية والنفسية والواقع فأضحوا يملأون الكون بالابداع غير مبالين رغم الموت الذي يحيط بهم.لعل وجه الشبه هو الذي جعل لرواية إيقاع العودة للروائي عوض عثمان عوض صاحب الخيال الواسع والسرد المنمق والتعبير السلس والتصوير الزاهي فرصة الاقتراب من رواية الأديب الراحل الطيب صالح في رائعته (موسم الهجرة الى الشمال) من حيث موضوع المثقف المغترب عن وطنه ومجتمعه، وغيرها من الموضوعات الأخرى.. شبه قد يختلف حوله النقاد والقراء على السواء حيث تتفاوت درجاته مع ملاحظة أن الرواية جنحت مسافة عن ما يعرف بالرواية الكلاسيكية. ولقد استطاع الكاتب لحد ما أن يوظف طاقته الإبداعية في تأسيس وجهة نظر أخلاقية وفلسفية لعمله الأدبي وفق محاكمة صارمة للسلطة السياسية.الروايه تختزل في عمقها أبعادا روحية وفلسفية وتاريخية وسياسية وأبعاد قومية وقطرية جعلتها مرجعا لحياة الفنانين - المكتنفة بالشقاء والمكتظة بالتقلبات - ممّن يتطلّعون إلى اكتشاف سر هذا العالم واضاءة الطريق للآخرين علاوة على القلق الدائم رفيقهم الآخر في رحلة الشقاء الوجودي وأسئلة الكون الكبرى.نجدها تناولت باقتدار المنفى الواسع والشتات المهيب.. وكما انها موسومة بالموت وإن تعددت أسبابه.تدور أحداث الرواية في فضاء عالمي وعبر مدن عالمية عديدة وإن كانت محطتها الرئيسة بين عاصمة الضباب؛ لندن والسودان... وتعددت الموضوعات الأساسية في الرواية.. الحرية الغائبة- الاختفاء او الغياب – الغربة - وجودية الفنان- قلق الفنان الدائم.وعلى منوال الحنين والأشواق للوطن الصغير إنطلقت أحداث الرواية على سرد وصفي ليس مغالياً في التعقيد فقط، بل متشابك ودائري في انبساطه الحركي. وهذا النمط الوصفي نلحظه عبر الرواة مثلما جرى الوصف في رواية (شرق المتوسط) للروائي عبد الرحمن منيف حيث أن المشترك الأساسي (الحديث عن السجن هنا في (إيقاع العودة) جزئي وإن تعددت أمكنته ودلالاته ورمزيته من غياب وسجن سلطوي وغربة ومرض، وهنالك نجده مكتمل الشروط والأركان في رواية (شرق المتوسط)، والذى لم يتجاوز حالة السجن السياسي.وتجايلت مشاهد الوصف وتداخلت في الرواية من وصف المدينة الاوربية،ومن ثم في لحظات وجيزة قفزت إلى الريف (واكتفت هاجر بوصف المكان وذكرياتها مع شقيقتها الصغرى الراحلة) عبر الحنين والأشواق الطافحة التي غمرت الراوية – وهي البطلة هاجر ساتي الشاعرة والفنانة التشكيلية حيث نجد أن الرواية قائمة على الوصف عبر الراوي.واتخذ مسار الرواية انحرافه الفالت نحو الفن ونلاحظ ذلك حتى في الشخوص الثانوية التي وردت غير أن أثر الفن ممتد مثلا في شخصية نديم خان صاحب وكالة العقارات الذي أستاجرت منه (هاجر ساتي) الشقة حيث ربطها بابنته الراحلة نسيم فيما يخص أعمالها الفنية (لوحات ومجسمات فنية). ولقد عبرت هاجر عن مشاعرها تجاه الرسامة الصغيرة في لوحة (فتاة من كشمير)، وكذلك أعجب عامر باللوحة حتى كتب نصا مسرحيا عن هذه الفتاة.بدأت الرواية واضحة إنها تتناول الألم المحيط بجسد الفنانة (هاجر) التي احتفظت بسر مرضها لفترة طويلة جدا، واخفته عن الكل حتى لحظات مغادرتها لأرض المهجر صوب وطنها السودان.وشكلت سيرة الموت حضوراً كثيفاً في الرواية.. بدءً من شقيقة الفنانة هاجر الصغرى.. وفيكتور (كوستاريكا)، مختص في علم الآثار والحضارات القديمة وهو صديق (عامر حسين)، والذي توفى في حادثة طائرة في البرازيل.. والد كاليستا اليونانية جارة هاجر.. عامر حسين.. والفنانة هاجر ساتي. وكذلك على مستوى الشخوص الثانوية والمتقاطعة في النصوص الداخلية كالنزيلة سحر جبر المنتحرة في زنزانتها الانفرادية في قصة (جدران الصمت والعذاب) تفاديا للاغتصاب.. قريب هاجر الذي أختفي قبل أكثر من عقدين من الزمان بعد خروجه من العمل المسائي.. وانتحار الموظف بمصلحة النقل النهري والفنان من منطقة عامر.. كما جاءت سيرة موت الشاعر الفلسطيني محمود درويش في صلب النص.. ومحاولتى انتحار مهران صديق عامر، والجد العائد من شيلي إلى وطنه.كما حملت البداية شارة النهاية المبكرة لبطلة الرواية الفنانة هاجر ساتي.. ونلمح أثر ذلك في عبارة قالتها في صفحة (20):- وقبل أن أودعه للمرة الأخيرة قلت له هامسة: "أتينا إليك أيها النهر لأودعك، احمل على عاتقي عبء غياب طويل.. وبقايا روح منهكة، وقصائد تائهة ولوحات مبعثرة في المدن البعيدة".يبدو أن الرواية مع ذلك آثرت أن تناقش، على نطاق قضايا المبدعين، مسألة عدم وجود القدر الكافي من تسليط الضوء في داخل الوطن على أعمالهم في المهجر.. وتلك قضية المبدعين ومعاناتهم في سبيل نشر أعمالهم.وبالتشريح المبسط.. قدمت الرواية نقدا رفيعا وإضاءة لثقافتنا البصرية، خاصة ما يتصل بالفن التشكيلي واللون كمعيار فني لسبر أسرار اللوحة.شخوص الروايةما يربط بين شخوص الرواية هو علاقة الفن المُتجذرة في وعيهم وايمانهم به كمهنة وقضية لإيصال رسالة مهمة للعالم وانتشاله من براثن الجهل والفقر والأمية نحو آفاق التنمية والتطور وحالة الإنسانية. وهذا ما جسدته بطلة الرواية الشاعرة والفنانة التشكيلية هاجر ساتي التي درست الفنون الجميلة في جامعة وارسو، والدراسات العليا في اكاديمية روما للفنون الجميلة. وكذلك اتخذ نفس المنحى البطل الآخر والأكثر حضورا بحضوره وغيابه.. (عامر حسين)، خريج معهد الموسيقى والمسرح، والكاتب المسرحي، والقاص والناقد الأدبي. وندرك خصوصية التأصيل مستمرة وممثلة بشخصية ماريكا جارة هاجر.. عازفة كمان محترفة وعضو بارز في فرقة أوركسترا لندن السيمفونية، وتعمل استاذة مشاركة في إحدى كليات الموسيقى بلندن.ويمتد الأثر الفني في شخوص أخرى مثل الفنانة التشكيلية العراقية سناء قاسم، وأيضا في شخصية هيلين الهولندية الفنانة التشكيلية والباحثة والمتخصصة في تاريخ الهنود الحمر صديقة هاجر التي درست معها في أكاديمية روما للفنون الجميلة. بالإضافة الى الشخوص الأخرى مثل شخصية كاليستا اليونانية (جارة هاجر)، شخصية الجدة أنوش الأرمنية التي عاشت في سوريا لمدة عقدين، وفيكتور (كوستاريكا).. المختص في علم الآثار والحضارات القديمة وهو صديق عامر حسين، وأوليغ المخرج السينمائي المختص في الأفلام الوثائقية والتاريخية، وزميل دراسة للموسيقية ماريكا، وشخصية أليشا – زميلة هاجر ساتي – من أصول هندية ومواليد دار السلام، وأيضاً شقيق كاليستا الفنان التشكيلي الذي ذهب لدراسة الهندسة في المجر ولكنه عاد بعد الدراسة واخبرهم انه تخرج في كلية الفنون الجميلة، وشخصية أماني شقيقة هاجر الكبرى.البعد الصوفيمن غير اللائق أن نتجاوز البعد الصوفي الذي تمثل بدلالته الواضحة في متن الرواية، ونمضي في ركاب معان أخرى. فالأجواء الصوفية حاضرة بعمق كما هو التدين الصوفي ضارب بجذوره في كل النسيج المجتمعي بالوطن؛ السودان.وفي مستهلها نلحظ سمت الرواية بدأ بثيمة صوفية: "تأتي من البعيد أصداء أذكار صوفية مصحوبة بنسمات الريح.. تتمايل أوراق الأشجار الخضراء بطرب ورشاقة وكأنها غارقة في حالة شوق ووجد صوفي".وكما تظهر الموتيفة والأثر الصوفي وتمازجه ببنية المجتمع في حكاية عامر عن الشاب الذي فقد عقله بسبب غرق السفينة التي كان على متنها، والتي تعرضت لحريق في شمال السودان على نهر النيل، ونجا هو فقط.. حيث أراد الشاب الذهاب الى مصر من أجل حضور مولد السيد البدوي بمدينة طنطا، فقد كان مسكونا بعشق الصوفية، يذهب لزيارة اعلام الطرق الصوفية في كل الأمكنة داخل البلاد وخارجها حتى أطلق عليه أهله لقب حاج موت سراً بينهم بينما الآخرون أطلقوا عليه لقب محروس، وهي ألقاب لم تبارح الفضاء الصوفي بالسودان كحال كرامة الأسياد كما يقولون هي التي انقذته من تلك الحادثة.وتزدحم الرواية بالأنفاس الصوفية الخالصة في قصة (عامر) عن الشيخ الذي التقاه خاصة عندما أشارت إليه أمه "بان من التقيته قد يكون ذلك الشيخ هو الخضر (نبي الله الخضر).. وقد أتي ليريك الطريق يا ابني".كما لعبت القصيدة الصوفية دوراً محورياً في إضفاء نور صوفي حالم للمشهد الروائي في كلياته المستمد من إيقاع قصائد والد (عامر) المرتكزة على البعد الفلسفي والصوفي العميق.وتمضي الرواية في إنتماءها الداخلي على النسق الصوفي أيضا حيث زينت البطلة (هاجر ساتي) صدرها بقلادة تحتوي على حفنة من تراب كتميمة مثلت حضوراً مادياً ومعنوياً ضافياً جاءت من الواقع السائد والرؤى الصوفية المتداخلة مع الحلم، وحكايات الأسلاف، ونص الرواية التي مٌزجت بحبكة فائقة الدقة من الكاتب. وخير ما أكمل الحضور الصوفي في الرواية، مشهد الدراويش، وايقاع الطبل، والراية الخضراء كدلالات مادية يتسم بها التصوف في كل مراقيه.تداخل النصوصاستطاع الكاتب أن يوظف موهبته في أن يسرد على لسان شخوصه قصص قصيرة داخل ثنايا النص الأصلي مما أدخل حالة من التداخل الكثيف ما بين ما يود قوله، وأن تلعبه تلك الشخوص من أدوار على المسرح الروائي... وقد يكون ذلك مربكا بعض الشيء للقارئ رغم انه جاء في سياق متماهي مع موضوعات الرواية. ولذا يجيء تداخل نصوص الراوي (الكاتب) مع شخوص الرواية، كنوع من الكولاج؛ مزج صورة بصورة لتخرج صورة أخرى جديدة وأكثر توهجاً. وربما هنا تضعف الحنكة الإبداعية للكاتب، ويصبح العمل الفني في بنيته السردية حينئذ موغلاً في تداعي الاسهاب المفرط.بالمقابل وجد الراوي (الكاتب) فرصة ثمينة لأن يتوارى خلف قصص شخصيات الرواية المحكية بألسنتهم داخل النص في تمازج تام معه.ومن أمثلة النصوص المتداخلة لشخوص الرواية مع نصها، قصة (صوت الغائب وحوار الأشباح)، و(الغجرية إنجيلا ناقشة الوشم على الجسد)، علاوة على عدد من القصص الأخرى مثل: (دروب الصبر – ترميم داخلي – ألوان هاربة – اوهام الغربة)، جلها للقاص عامر حسين.الخروج عن النصيمثل الخروج عن النص في المسرح أحد الإضافات المهمة والمكملة للعمل الفني إذ تضفي عليه لونية مشبعة بالتخيل وفضاء اللحظة والزمن خاصة إذا كانت المشاهد التي أُدخلت تتماشى مع النص وتتداخل عليه دون أن يلاحظ المشاهد، ولكن نجد أن حالات الخروج عن النص في العمل الروائي عديدة ومربكة ومشوشة للقاريء لا سيما التي تمثلت بايراد القصص الواقعية في ثنايا النص وتداخلها معه بصورة ربما تثير الكثير من الأسئلة عند القارئ.فالقارئ فطن ولماح وصاحب حس أدبي رفيع وله القدرة على عقد المقارنات وحمل لواء النقد في ظل أي نص متشبع بالسيولة والترهل ومثقوب بالمعرفة والاستعراض الثقافي ومتشعب في مضمونه وشكله، ووقتها لا يجد مناص إلا الهروب صوب سوح أخرى لطالما الاستدعاء الخارجي سيد الساحة.فالسير في منعطفات الرواية يستدعي مصاحبة الخيال ولاشيء غير ذلك، فالقارئ لا يحتاج إلى كم من ضروب المعرفة والمعلومات، وأياً كانت فائدتها المرجوة، فذلك دسم دس فيه السم الذي يصيب حاسة التذوق بالشلل والموت والانتفاخ.وقد فاضت الرواية بطفح أقرب إلى حالة عسر الهضم المعرفي والذي نلحظه في قصة الرسام الايطالي كوستا لورينزو الذي عاش في عصر النهضة.. والتي خلدت لوحته الشهيرة "الجوقة الموسيقية".. وأيضا ذكر سيدة فيلم تايتانك والحديث عن العزف أثناء غرق السفينة المشهورة.. وكذلك الاطناب في سيرة الشاعر محمود درويش الفنية من خلال عبارات له قالها من قبل في حوار قديم مع صحفي شامي: "كن النهر ولا تكن الماء تلك هي الخصوصية"... وكذلك الاستطراد في خبر موته وحياته وإنجازاته الأدبية، ومضى الكاتب إلى ذكر الراوي فارنز كافكا التشيكي، والمغني المصري (محمد منير) عبر أغنيته: "هون يا ليل غربتنا وأبعد يا ليل فرقتنا"، والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد وكتابه (خارج المكان). وكل ذلك في فصل واحد من الرواية (طقوس الحضور)، وغيرها من القصص الأخرى والوقائع الحقيقية لمسار بعض شخصيات الرواية الأصيلة والثانوية.وأيضا وردت اسماء بعض الأعلام لفنانين وأدباء وشعراء ومفكرين وعلماء وغيرهم مثل؛ فيروز – نزار قباني (رسالة تحت الماء) – عبد الباسط عبد الصمد – ناظم حكمت – هيجل.وكذلك استخدم الكاتب موضوع خارجي داخل متن الرواية- قصة من كتاب "التاو" - وتعني الطريق لمؤلفه "لاو تسي" أحد حكماء الصين. وهو عرض خارج حلبة السياق الفني للرواية بأية حال لا يمكن التسامح معه.وفي معمعة المعلومات المتدفقة، إضطر الكاتب إلى أن يشرح ويستعين بالتفسير أي استدعاء النصوص التفسيرية، مثلا في تفسير إصطلاح (النيرفانا).قلق الفنانمن أكثر القضايا المعقدة التي تواجه الكثير من زمرة الفنانين إشكالية إغتراب الفنان عن مجتمعه وتقوقعه في كمون وجودي يلتف حوله بوعي أو بغير وعي.. وهذه واحدة من الأسباب التي تقود إلى الإنتحار في هذا المجتمع المعقد ذهنياً.. فالفنان ذو حس مرهف وذوق عالي وذكاء حاد وموهبة فذة تشعره بالفوارق وعدم قيمة الحياة في الكثير من المواقف وهو لا يعرف أنصاف الحلول وانتظار الغد رغم حمله لمشعل تنوير وتثقيف كبير.وهنا دلالة الحياة المتعلقة والمرهقة بالأسئلة التي يعيشها الفنان مع نفسه وحالة القلق والتوتر واظنها حالة وجودية تلازم الفنان طيلة أمد إبداعه في الحياة، ولكن مع ذلك ينجو البعض من تلك الحالة الذهانية العصية على التطويع.ويمكننا أن نتابع ذلك في الرواية وتلخيصه في عبارة وردت على لسان (عامر حسين) احد شخوص الرواية الرئيسيين: "كلما تزداد المعرفة يكبر حجم الورطة، وتصبح الحياة أضيق من خرم الإبرة"..وفي نص الرواية وردت حكاية توضح مالآت القلق عند الفنان، والتي حكاها (عامر) لصديقه (مهران).. قصة الشيخ الكبير المسن حيث قال له الشيخ: "عليك ألا ترهق نفسك بالكثير من الأسئلة والبحث عن الأماكن البعيدة في حين السر موجود فيك وبين يديك وفي داخلك".بالمقابل سرد (مهران) قصة دخوله المستشفى لصديقه (عامر)، وهي عند محاولة انتحاره بالسقوط من أعلى المبنى طرداً للقلق والأرق. وأضاف (عامر) قصة أخرى، وحكاها للفنانة (هاجر): "تحدثت قبل يومين مع صديق لي في السودان. أخبرني بحادثة وفاة شخص أعرفه من منطقتنا وجدوا جسده طافحاً في النيل بعد رحلة بحث مضنية عنه استمرت ثلاثة أيام.. وجد أهله ورقة صغيرة بخط يده"، قال فيها: "لقد مللت هذه الحياة"، تؤكد إنتحاره. وكان المنتحر يعمل موظف، واسع الإطلاع والمعرفة لا سيما التاريخ والحضارات القديمة والأدب.. إضافة إلى ذلك كان له موهبة العزف على آلة الساكسفون وهو عاشق للموسيقى والفنون بصفة عامة.سيرة الغيابحفلت النصوص بوجوه الغياب بأشكاله المختلفة، مما أثار أسئلة حول عنوان الرواية: إيقاع العودة، في مضامينها الكلية، وبالكاد أن يعبر عن المحتوى وما جرت من أحداث في المتن. وقد قصر إيحاء العنوان في بعده الواحد على حالة البطلة (هاجر ساتي) في عودتها الاخيرة إلى وطنها، وكأنها هي المعنية في إطار المعنى العام والشامل لمفهوم الرواية.ويسمتد الغياب في النص مدلوله من الحرية الغائبة، الإعتقال، الاختفاء، الغربة، وجودية الفنان، قلق الفنان، والموت كخاتم له. وهو غياب ألقى بظلاله على كل شخوص وأمكنة الرواية والتحم بها في تضام لا يمكن فصله، وجعل من متن النص سيرة كاملة للغياب في أعلى معانيه المادية والمعنوية.ونشهد على سيرة الغياب الباهية في التقاء (هاجر) في حلمها بالفنان المفقود (عامر)، والذي أباح لها بالقول: (لقد عذبوني مرة أسبوع كامل حتى فارقت روحي الحياة)، كما قالت والدته في ذات المنحى: "إننا لن نراه بعد الآن على الإطلاق)".والأرفع لوجه الغياب بان في عبارة بليغة وتشير إلى مغادرة عامر إلى الإعتقال والتصفية الجسدية أو الانتحار أو شيء آخر، ولقد قالها لـ(هاجر) اثناء حديثهما عن الانتحار، وسيرة المنتحر من أهل قريته - بصوت حماسي لا يخلو من الجدية -، "المجد لأولئك المسكونين بلهفة الإبحار إلى الضفة الأخرى..".وبرقت السوانح والبوارح تلوح في سماء غياب عامر المفتوحة على أسئلة عصية على الإجابة، ولعل تساؤل (هاجر) عندما دندن (عامر) بصوته الجميل بطرب رائع مجرد خيط في المتاهة:بيني وما بينك مسافات الغيابوحس المطرة في الأرض اليبابوجاء سؤال (هاجر) لـ(عامر) في ذلك اللقاء قبل أن يغادرا المقهى، أكثر إلحاحاً وعمقاً لإستشراف المتغيرات والتنبوء والافتراض: لماذا سيرة الغياب اخترتها لتكون خاتمة ذلك اللقاء؟وقراءة الكف والطالع والغيب لم تكن بعيدة عن أجواء الرواية، وجاءت متضامنة مع البعد الصوفي في ثيمة (ميتا فيزيقية)، وهو تكهن باحت بسره عرافة صادفها (عامر) في إحدى شوارع الخرطوم وأصرت أن تطلع على كفه.. قالت له: "عمرك قصير يا ولدي.. لا أدري ما هذا الغموض الذي يصاحب وفاتك".. وقال عامر: "لقد رأيت في عينيها ملامح صادقة ونبرات صوتها كانت معبرة لدرجة بعيدة".ظاهرة الإختفاءبقدر ما عالجت الرواية وإهتمت بالعديد من القضايا الملحة الا إنها لم تغفل ظاهرة إختفاء الشخوص خاصة الناشطين في ضروب الحياة المختلفة ودروب النشاط السياسي، والتي أضحت تقُضُّ مضجع الكثير من الوطنيين حيث سلطت الرواية الضوء على الظاهرة... مثل؛ حادثة إختفاء إحد الشخصيات المحورية في الرواية (عامر)، وأحد اقارب هاجر قبل أكثر من عقدين من الزمان بعد خروجه من العمل المسائي.وفي سياق الرواية تعرض عامر للإعتقال أيام دراسته بالجامعة في أحدى زنازين الاعتقال (العمارة الصفراء) تيمناً بما يجري على أرض الواقع، وهو أسم جادت به قريحة (عامر).ويلوح في الأفق أن لـ(عامر) موقف سياسي من السلطة يظهر من بين ثنايا ما يقدمه من إبداع وهو التزام أخلاقي على كل حال سار في نهج دروبه غير مبالي، وهو شخصية تسكنها روح فنان متمرد وثائر على كل شئ حتى على نفسه.. مصادم، ويمكن ان يدفع حياته ثمن مبادئه وقيمه العليا كما قال عنه أصدقاؤه.وطفق (عامر) يتحدث للفنانة (هاجر) عن فترة المعتقل التي تعرض لها، قائلا: "كان يعذبوننا مرة باسم الدين ومرة باسم الوطن ومرة باسم لا شيء.. هم وطنيون وغيرهم خونة". بالفعل أثرت تجربة الاعتقال على (عامر) احد أبطال الرواية في كتاباته.. وادخلته في جدلية السؤال والكيف.. حتى على مستوى أفكاره وقناعاته بأن الانسان في كثير من الأحيان كائن انتهازي ومدمر ومتسلط وحقير، كما أن تجربة المعتقل تجعل الانسان يشعر كأنه منبوذ ولا قيمة له في هذا العالم. ومهدت الرواية في تلافيف رمزيتها الكبرى لتناول سيرة شاعر معروف اختفى فجاءة في ملابسات لا تزال حديث الناس حتى يومنا هذا.حضور غفاريالأكثر إدهاشاً أن تجد في متن الرواية ما يشير إلى وجود شخصية فنان معاصرة تأخذ حيزاً كبيراً وتعبر عنها شخصية داخل النص وكانها تجسد الواقع الحقيقي للغائب بفعل لا ندرك كنهه مثلما غاب (عامر)، الذي مثل دور الشاعر أبا ذر عبد الله الشريف المعروف بـ(أبا ذر الغفاري)، الغائب منذ العام 1989م. هنالك وجه شبه لا يمكن إخفائه بين الشاعر ابا ذر الغفاري و(عامر) وكلاهما فقد في ظروف غير طبيعية، ولم يعرف له أثر حتى تاريخ هذه اللحظة.. وثمة شيئاً آخر.. كلاهما أودع حقيبته الأدبية وحصاد أدبه عند البعض مثلا غفاري تركها موزعة بين ثلة من أصدقائه الخلص وقبيلته الأدبية وأقرب الأصحاب له كما يبدو ذلك في قصيدته العصماء (تراتيل الصحابة)، و(عامر) تركها عند (هاجر ساتي) مستودع سره ربما تركها عند آخرين وهذا لم تشر إليه الرواية. وكلاهما أيضاً غادر إلى جهة غير معلومة وفي كليهما يرجح الكثير من الناس أنهما غادرا إلى جب الموت بسبب الفعل السياسي وحالة القمع التي يواجه بها أرباب الكلمة.. واتفقت أقوال البعض بأن راى (غفاري) في إحدى سجون بورتسودان، وهنا البعض فيما يخص (عامر) لقد اتفقوا على مشاهدته في سواكن واماكن أخرى مثل نيالا وفاس بالمغرب في هيئة (الشريف الدرويش).. ورأي آخر يرجح اعتقال (عامر) لنشاطه السياسي السابق ونقده الشرس لحالة الفساد.حضور التاريختمثل في الكثير كنمذوج، الأشارة إلى التدين الوثني والاسطوري ممثلا في عيد الديوالي، وهو عيد الأنوار عند الهندوس يقام إحياء لذكرى لاكشمي إله الثروة. وأيضاً الحكيم الهندي بهاراتا كاتب الفيدا الخامسة في علم الجمال الهندي.ولعل سمة الإهتمام المشترك بين شخوص الرواية بدت ظاهرة في حالة الغجر والبوهيميون الذين يشتركون في خصائص كثيرة بل إن الغجر هم الشرارة الأولى لبداية ما يعرف بالوهيمية في الأدب والفن في فرنسا. وهنا وجه التقاء لبعض شخوص الرواية في إهتمامهم بعرقية الغجر وتاريخهم واسمائهم ومواقع بلادهم العديدة والمنتشرة على جميع أصقاع العالم، بالإضافة التى تلبسهم بحالتهم في القلق المستمر وعدم الركون إلى الزمان والمكان.ولـ(عامر) حديث عن الغجر خص به (هاجر) والذي صبغه بلونية اجتماعية وصفت تلك الحياة التي أرتضوها، حين قال: "كم كان الغجر محقين يا صديقة عندما أطلقوا على أنفسهم لقب (أبناء الرياح) بعد أن تخلصوا من عبء ووهم المكان والأرض..".وكما كان حضور التاريخ طاغياً وممثلاً في بعده السياسي والتراثي على التوالي في ذكر حكومة سلفادور الليندي في شيلي، ومتحف فرانز كافكا في براغ عاصمة التشيك.وامتد الأثر التاريخي إلى رؤى واحلام الفنانة (هاجر ساتي) في النص، وكأنها تشير في وعيها الباطني إلى لعنة جيل ولد في ظل ثورة مايو وترعرع وسط انغامها واهازيجها، ووجد نفسه مواجهاً بعنت الحياة والظروف المعقدة في عهد ثورة الانقاذ وتفلتات المشروع الحضاري. بلا شك هذا يشير إلى تاريخية الرواية وزمانها وحزمة وقتها التي إمتدت إلى أربعين عاماً من الرهق مما يمكن وسم تلك الفترة في بعدها الزمني والسياسي بأربعينية الغياب.وتتداخل الوقائع التاريخية منتقلة بين الحضارات القديمة علاوة على التاريخ الحديث، ووسط ذلك نجد ثراءاً معرفياً عن الحضارة النوبية بشمال السودان ينبعث في كل أعمال (هاجر ساتي) الفنية مقروناً بشواهد أخرى، مثل، زيارة والد العازفة (ماريكا) للسودان في سبعينيات القرن الماضي في عداد بعثة آثار بولندية، إضافة إلى ذكر الآثار السودانية الموجودة بعدد من المتاحف العالمية؛ المتحف البريطاني، متحف وارسو، ومتحف بوزنان وغيرها.وندرك خصوصية التأصيل التاريخي في العلاقة الفنية من جهة بين شخصية (ماريكا) جارة هاجر.. عازفة الكمان المحترفة والعضو البارز في فرقة أوركسترا لندن السيمفونية، والتي تعمل استاذة مشاركة في إحدى كليات الموسيقى بلندن علاوة على إنضمامها إلى فرقة المغني النوبي محمد منير، ومن جهة أخرى بين والدها المؤرخ والباحث في علم الآثار، والمهتم بشكل خاص بحضارة وادي النيل والحضارة السومرية، إضافة إلى كونه موسيقياً من الطراز الفريد، ويجيد العزف على عدد من الآلات الموسيقية.الوحدة الثنائيةشكلت الوحدة الثنائية نسقاً بديعاً من المقارنات، وفي إطار ذلك حفلت الرواية بثنائيات متعددة ودارت في فلك ثنائية المنفى والوطن وثنائية الحاضر والماضي.. ولعل ثنائية الفن التي جمعت التشكيلية (هاجر) والروائي (عامر) في اشتراكهما في أعمال فنية؛ نصوص (عامر) التي تحولت على يد الفنانة (هاجر) إلى لوحات فنية. وحتى الثنائية كأنها قدر مسطور تجيء في رحيلهما الفاجع.وفاضت أنامل (هاجر) بصنع ثنائي بديع في لوحة (آلام العاشق)، مستلهمة جماليتها من قراءة لقصة عامر: (بكائية عاشق عن ضريح الحبيبة). وامتدت الثنائية إلى حالة المرض - إحدى وجوه الغياب الأكثر إيلاماً - عند (هاجر) ووالد (كاليستا) جارتها، فكلاهما مصاب بالسرطان، وكذلك جمع الموت بين الشقيقتان (هاجر والصغرى)، وتلاقيهما الجغرافي في علاقة نهر النيل عند لحظات الموت والاحتضار.وكلما توغلنا في فضاءات الرواية، نتحسس حيوية الأمكنة وثنائيتها المادية، ومن ثم نظفر بثنائية المكان.. بريطانيا والسودان؛ فضاء الرواية الأوسع نطاقاً مع ثنائية النهر.. التايمز والنيل، والتي لا تنفصل عن ثنائية البعد الجغرافي.. الشرق والغرب؛ وكذلك ثنائية الزمان.. الليل والنهار.وتخللت الرواية في سردياتها المختلفة والمنفتحة على أكثر من نافذة، ثنائية الحنين والشوق والتي لونت التفاصيل والحكي، ومنحتهما بعداً متسقاً مع ثنائية سرد الراوي، وسرد شخصيات الرواية لقصصهم، والتي تلاقت مع ثنائية الواقع والخيال أو الحقيقة والحلم.ولكن البرزخ الأكبر لحالة الوحدة الثنائية تمثل في ثنائية اللغة.. الانجليزية والبولندية من جهة، وثنائية اللغة العربية والنوبية من جهة أخرى، وكذلك ثنائية اللغة البولندية والعربية، مقرونة على صفاء إنساني بثنائية الحضارات.. حضارة النوبة وحضارة المايا (هنود المايا)، وثنائية القوميات.. الهنود الحمر، والغجر من جهة، وثنائية المقارنة بين الغجر والنوبة في الحراك الجغرافي الموجب والسالب. أفلح الراوي في سياق السرد المحكي أن يقودنا بذكاء إلى ثنائية العودة.. عودة البطلة (هاجر)، والعودة الأخرى في نص (عامر): "سيرة الجد العائد وأنغام السالسا"، والتي تحكي عن عودة الجد من شيلي إلى بلده بريطانيا. وهي عودة تتماس مع ثنائية العرافة: في حالة غياب (عامر)، وفي حالة الجد العائد من امركيا اللاتينية إلى بلاده بريطانيا في قصة عامر (سيرة الجد العائد وانغام السالسا)، والتي تنبأت فيها العرافة بعودته لبلاده.ونختتم الثنائيات التي وحدت من متن النص وصعدت به إلى ذرى التقارب في وحدة الموضوعات وإن تعددت، بثنائية غياب (عامر) عند (هاجر) وأمه: التقاء (عامر) لـ(هاجر) في حلمها: "لقد عذبوني مرة أسبوع كامل حتى فارقت روحي الحياة"، كما أن والدته قالت: "إننا لن نراه بعد الآن على الإطلاق".موت المؤلفتعد أدوات النقد واحدة من المفاتيح التي تستطيع سبر أغوار النصوص وتفكيكها مهما تعالت واستمسكت بعروة العلو والرفعة، وهو شأن يخص النقاد وليس المؤلفين الذين ينتهي دورهم بكتابة النص فقط كما نادت نظرية موت المؤلف بذلك. ومن غير المعتاد في الرواية أن يأتي الكاتب بسيرة ذكر للنقد ولكن هنا جاء متوازياً مع موضوعات النص، ولم يشذ عنها لطالما هي سيرة الفن طاغية على مجمل الأحداث.ويبدو ذلك ظاهراً في الحوار الذي دار بين (عامر) و(هاجر) حول نص الأول (جدران الصمت والعذاب) الذي حولته الأخيرة إلى لوحة (الجدران الصامتة)، مما دعا (عامر حسين) أن يقول: "العمل عندما يخرج إلى النور يكون ملك القارئ وليس ملك صاحبه.. لا تنسي يا صديقتي انني من انصار نظرية موت المؤلف".فالناقد الفرنسي رولان بارت يرى أن دور الناقد قد شحب وتضاءل حضوره بسبب ابتعاده عن كتابة (النقد التنويري) وانسحابه إلى صومعته الأكاديميَّة.بينما تقول مدرسة النقد الجديد وأنصارها: "علينا أن نحتفي بالمتلقي (القارئ) باعتباره هو الذي يمنحُ النَّص قيمته المعرفية والجمالية من خلال ما يُمارسه من قدرة وكفاءة في تذوق النص وشحنه بالدلالات والصُّور التي تكون أحيانا أكثر عمقًا من الشكل الذي يطرحها به النَّص".لكن أخطر هذه الاتهامات هو ما جاء على لسان الناقد البريطاني رونان ماكدونالد، ووصفه في كتابه "موت الناقد" الصَّادر حديثًا بأنّه "متطفل وشخص غير فاعل بسبب عدم قدرته على الخلق الفني، لكنه قوي وقادر في صورة غير لائقة، على تدمير سمعة المبدعين بضربة واحدة من قلمه المسموم".لم يكتفِ ماكدونالد بالتقليل من شأن الناقد ودوره بل ذَهَبَ مَذْهَبًا بعيدًا باستبدال مقولة "موت الناقد" بـ"موت المؤلف"، والعجيب أيضًا هذه المرة أنَّه يلوذ هو الآخر بالقارئ على نحو ما فعل "رولان بارت" قديمًا، مما أعطى أهمية قصوى للقارئ.السؤال الأخير هل بعد موت المؤلف (عند رولان بارت)، وموت الناقد (عند رونان ماكدونالد) سيأتي اليوم الذي سَيُعلن فيه موت القارئ؟*وليس أخيراًوفي خاتمة قراءتنا نقول أن العمل صاحبته أخطاء طباعية عديدة لا تقلل من قيمته، وكذلك خطأ جوهري في اسم عامر حيث نجده باسم (عامر الياس) عند هاجر ساتي (ص 116) و(عامر حسين) عند العازفة ماريكا (ص 181) في خاتمة الرواية، ولكن الأقرب إلى الصواب من وقائع الرواية، هو الأخير.وكذلك عاب العمل مسألة القفز من مشهد إلى مشهد في عدة مواقع دون الانتقال بسلاسة، مثلا.. الحديث عن المجنون ثم مباشرة الحديث عن التلفاز الذي أمامهم في المقهى.. (هم يثرثرون وهو يستمع إليهم ونادرا ما يتكلم.. بعض المشاهد في التلفاز تبث صور الحروب والقتل في انحاء متفرقة من العالم).كذلك غاب أثر قديم ساهم في التواصل بين أرجاء العالم المتقطع لفترة طويلة من الوقت حتى جاء عصر التقنية الحديثة وأضحى تبادل الرسائل عبر البريد الالكتروني واختفت رسائل البريد التقليدي بظهور التطورات التقنية التي حدثت في الحياة.على كل حال، لم يغب عنصر السياسة عن مشاهد فصول الرواية، والذى بدا ظاهراً في نصوص (عامر) المسرحية.. (ليس على الأوطان حرج.. ما دامت تتسع كل ألوان الطيف)، وتجلى أكثر شمولاَ في النقد الذي وجهته (هاجر) إلى السلطة عن عدم إعارتها أدنى احترام للبشر الأحياء، وأضافت "بلا شك لن تهتم بآثار عمرها آلاف السنين، ناهيك ان السلطة في بعض الأحيان تنكر صناعة التماثيل والفن والرسم ولا تعير أدني اهتمام لشئ يسمى الآثار والفنون".. وسردت موقف أحد وزراء الثقافة الذي اقترح مرة إلباس بعض التماثيل الذكورية غطاء حتى تستر عورتها.. وتلاه الحديث عن الوطن الطارد للبشر والحجر وتتحكم فيه عصابة من المجرمين والطفيليين والمتسلقين.ويبقى ظهور طائر النورس في الرواية في منطقة شمال السودان احدى المفارقات التي لا يمكن القبول بها أو التيقن من صحتها، إذ علمنا بأن النورس طائر بحري يتواجد على شواطئ المحيطات والبحار لا علاقة له البتة بالنهر.وبطريقة مختلفة تجاوز الكاتب النهايات المعروفة والسائدة والمتوقعة لإنهاء حوار الرواية، مستعيناً بصوت الراوي أو صوت آخر ظهر في الرواية بعد إكتمالها بموت البطلة (هاجر)، مما أدى إلى ظهور (أماني ساتي) شقيقة هاجر الكبرى، إضافة إلى ماريكا العازفة في السودان، والتي طالبت بإطلاق سراح عامر حسين الغائب الحاضر وفك أسره من الجهة التي إعتقلته.*مقال (رونان ماكدونالد وكتابه 'موت الناقد')، ممدوح فرَّاج النابي، 04/01/2015، صحيفة العرب العدد: 9787، ص(13).[/rtl] | |
|