شذرات من شعر الراحل المقيم حسن الدابي
ياسر البهدير
هذه مجرد محاولة، لاستفزاز عارفي شعر الراحل المقيم حسن الدابي، وعارفي فضله علي شعر وشعراء منحني النيل، من أقرباء وأصدقاء واحباء، وهم بلا شك كثر، لما يعرف عن الراحل من حبه للناس، كيف لا وقد أتسع قلبه للجميع. فلهؤلاء نترك لهم امر القراءة الداخلية الاستبطانية الدقيقة لنصوص حسن الدابي الشعرية، اي قراءة البني العميقة فيها وفي تبيان جمالياتها وأستكشاف خصائصها الخافية. فما أخطه هنا، هو بمثابة تحريض، علي القيام بفعل خلاق، ينبش ويحفر، باحثا عن المعاني الغائبة، والمبهمة، والغريبة، والعميقة، بين ثنايا نصوص شيخ شعراء منحني النيل، حسن الدابي، أملا في اعادة بناء تصور لها، يربط الماضي بالحاضر. وحقيقة الامر ان الولوج الي عوالم حسن الدابي، ليس بالمهمة السهلة، والكتابة عن منجزه الشعري، كذلك ليس بالامر الهين، وذلك لعظم التأثير البالغ، الذي احدثه الراحل، في بنية، ومضمون، وموضوعات، وطريقة نظم، ولغة، قصيدة منحني النيل الغنائية.
فقد كان شعره الجسر الذي انتقل عبره، ما نسمعه اليوم من شعر، أو قل ما يطلق عليه اصطلاحا بأغنية الطمبور الحديثة. تمرد حسن الدابي علي الموازين الشعرية القديمة، التي ارساها الذين سبقوه، في هذا المنحي، من أمثال ود صليلح. حيث تميز حسن الدابي بإمتلاكه لادوات الشعر، الظاهرة والباطنة، بشكل كامل، وبما يصاحبها، من اوزان، وايقاعات، ومحسنات بديعية، وتساوق للمعاني، وصدق، وعاطفة، وقوة خيال، وغير ذلك، مما هو من مستلزمات الشاعر والشعر. تفرد حسن الدابي بقاموس شعري ثري بالمفردة، غني بالتراكيب اللغوية، علي خلاف ما كان سائدا، في تلك الحقبة الزمانية. فكان أن خرجت أغنية الطمبور من خلاله، في ثوب جديد، مختلف تماما، عن القديم الموروث، من ناحية نظمها وتراكيبها وموضوعاتها. ثم هو لم يكتفي بذلك بل اثر علي كل من قرض الشعر من بعده، سواء في الفكرة، او الصنعة، او الدربة. لذلك فان شاعر بهذه المواصفات، يصعب احتواء منجزه الشعري، في اسطر قلائل، بل حتي في سفر طوال.
والناظر لنصوص حسن الدابي، يلحظ بالإضافة لإحتشادها، بالصور المدهشة، والاستعارات الأنيقة، فإنها تأثرت، ايضا بعوامل متعددة، بعضها ديني، وبعضها لغوي، وبعضها ثقافي. انعكست بجلاء، في شعره الذي غلب عليه طابع الغزل العفيف الطاهر. وقد مكنته تلك العوامل، مجتمعة، في أن يبرع في الوصف، فجاء شعره عذب رقيق، ثري بالمعاني، مليئ بالصور الجمالية، التي أستقاها من البيئة التي من حوله. فنجده، مثلا، يصور حلبة الرقص، بدقة متناهية، واصفا ومتغزلا في من ترقص فيها. مستخدما في ذلك، مفردات وعبارات من السواقي والجروف وما عليهما من زرع:
يا خلاي فجو لي اللشوفة
مسخت عوم البترطن في جروفه
الرقيبة قزازة الروم في وقوفها
جرعتني الحناضل بي صنوفة
ثم يمضي بذات الوصف الدقيق، متغزلا في المحبوبة. مشبها إياها، بكل انواع الثمار، مما تجود به الارض، من برتكان، أو نخيل ، أو خضار. وفي كل الاحوال هو لا يتخلي عن الغزل المرتكز كليا علي الوصف:
يا خلايق لي جاره
البرتكان تقليد صفارة
فرهدت في عز عماره
ما بيجيبو حرام خباره
حابكة بالمليون تجاره
نهار وليل قاعدين حياره
سيدا قال ليهم صغاره
ما استوت دفيق ثماره
ثم هاهو يتخطي القرير جالبا لنا، من وراء البحار، الانناس والزبيب، الخوخ والرمان والعنب، وكله مما لا ينتج في القرير، كما انه ليس من ثقافة منحني النيل الغذائية:
الرقيبة قزازة زي البانة في اللين
ما الزبيب؟ ما الخوخ؟ وما الرمان مع التين؟
في زهور خديكي محتارة البساتين
ناس فلانة وغيرا ديل ساكت عناوين
ويقول كذلك:
يا غفيرة عليك الرسول
وما تعاتبيني تقولي زول
انا جيت اشوف الانناس شتول
منو أزمن طولته طول
وما بخلي اصلي يشوفني زول
قالي ابعد مني يا زول
وأيضا يقول:
بي نيرانو محروق
جنبي شاتلنو عجو الشوق
مروي باجورو فجر يسوق
فوق جريدو يميل يتوق
شتتولو الخمرة ماروق
في المقيل قمري يسوي قوق
قلت آخد منو واضوق
سيدو قالي ده ماه للسوق
ولم يتخلي عن الوصف حتي وهو يتغزل في الطبيبات:
ديل عنب تكا الشخاليب
مسهن للمرضان يطيب
والمحبوبة عند حسن الدابي، ليست هي مجرد ثمرة يانعة، حان قطافها، بل هي شتلة معطاءة، يحميها ويتعهدها صاحبها، بالرعاية والسقيا، ويزود عنها في وجه الطامعين، فكيف السبيل اليها:
ﻣﺸﺘﻮﻝ ﺍﻟﻘﺮﻳﺮ ﺍﻟﺪﺍﺑﻮ
ﺯﺍﺩﻭ ﺿﺮﺍﻳﺒﻮ ﻓﻮﻕ ﺍﺻﺤﺎﺑﻮ
ﻭﺍﺑﻮﺭﺍﺗﻮ ﻟﻠﻤﺎﺀ ﺟﺎﺑﻮ
ﻣﺎ ﻏﺒَﻮﻫﻮ ﻳﻮﻣﻰ ﺷﺮﺍﺑﻮ
ﺳﻴﺪﻭ ﺍﻟﺤﺎﺭﺳﻮ ﻟﻜﻰ ﺧﻄﺎﺑﻮ
ﻳﻨﺒﺢ ﺩﻳﻤﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﺻﺎﺑﻮ
ﻃﻮﻝ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻣﺒﺎﺭﺍ ﻛﻼﺑﻮ
ﺷﺎﻳﻞ ﺣﺮﺑﺘﻮ ﻭﻛﻮﻛﺎﺑﻮ
ﺍﻟﺪﺭﺏ ﺍﻟﺒﻨﻨﺪﻻﺑﻮ
ﺣﺠﺮﻭ ﻗﺎﻝ ﻳﺠﻴﺒﻠﻰ ﺧﺮﺍﺑﻮ
ﺣﺘﻰ ﺍﻟﻄﻴﺮ ﻳﺤﺎﺣﻰ ﺍﺳﺮﺍﺑﻮ
ﺩﻓَﻦ ﻟﻠﻨﻤﻞ ﺩﻳﺪﺍﺑﻮ
ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺣﺎﺝ ﺳﺨﺎﺑﻮ ﻭﺟﺎﺑﻮ
ﺷﺎﻝ ﻭﺍﻧﺘﻜﺎ ﻓﻰ ﻋﺎﻣﺮﺍﺑﻮ
ﻟﺴﻊ ﻣﺎ ﻧﺠﺾ ﻋﻨﺎﺑﻮ
ﻭﺍﻟﺴﺒﺎﺑﺔ ﻟﻴﻬﻮ ﻳﺸﺎﺑﻮ
ويتصدي بالدعاء علي من يحول بينه وبين ذلك المحبوب المشمول بالرعاية:
اريت العاقني فيك يتعاق
مزروع في قريرو دقاق
لسع بالعمار ما تاق
فجر بابورو دور وساق
يفوح من عودو طيب عباق
صقلت تلك العوامل، في مجملها، الموهبة الفطرية لدي حسن الدابي. ولعل من ابرز تلك العوامل التي اثرت بشكل واضح في شعر حسن الدابي، العامل الديني:
جود يا باري جود الرايقة لينا متين تعود
اصلي واعبد الباري اقيم ليلي واصوم نهاري
عشان الشاغلة افكاري شلوخا قضيب الكباري
اذاي ما بينفعو التحصين ولا الفقرا البقيمو الدين
اشكيك يا دهر لي مين بلا الخلق البشر من طين
ثم كان للمخزون الثقافي الوافر الذي حظي به، في الشعر العربي، وفي غيره من المعارف الانسانية الاخري، كذلك دورا مهما في اثراء اشعاره:
مناقبو تحير النقاد
طه حسين مع العقاد
فالشاعر الذي يدرك ان طه حسين والعقاد نقدا الشعر، وان جساس قتل كليب، بلا شك هو شخص ذو المام واسع بالثقافة:
حالي منو الاطفال تشيب
زي كتل جساس لي كليب
وهو يتنقل من بستان الي بستان، منداحا في ذلك المدي، الثقافي الواسع، لم يتخلي عن الغزل:
ديل دكتورات مو لعب
جابنا الدكتوراة في الطب
نظرتن لو تقذف لهيب
تحرق امريكا وتلابيب
قلبي في الدقات والرنين
تعترف تشهدلو بق بن
جانب ثقافي آخر، كان حاضرا في شعره، ذلكم هو عمله في الشرطة، والذي مكنه من الالمام التام بالاجراءات القانونية المتبعة في المحاكم:
قالي خلاص عليك حكم
ما دام عاينت برضو اجرم
ويقول أيضا:
يا غرام في قاضيك محن
قالي ساقط قبل امتحن
بل يذهب أبعد من ذلك، حين يعقد جلسة محاكمة متكاملة العناصر، فيها عرض لحيثيات صحيفة الاتهام، ثم تلاوة صحيفة الدفاع، ثم قرار اعضاء المحكمة، بنصرة المظلوم، وردع الظالم، وكل ذلك في شأن المحبوب:
في الحيثية تلت اعدامي
قالت كيف تناقض احكامي
قالت كيف تبوح بغرامي
قالو الاعضا ما بتتلامي
اطلع برة من قدامي
لا شك مقتلك بي سهامي
فعمل الراحل ببوليس السودان هو الذي رفده بمعرفة اجراءات التقاضي في المحاكم الجنائية معرفة تامة. حيث أن من المعلوم بالضرورة، أن من يتولي صحيفة الاتهام، هي الشرطة في ذلك الزمان قبل استحداث فكرة النيابة في السودان، ذلك النظام المعمول به في وقتنا الحاضر. وفي هذه القصيدة يجعل الشاعر من التغزل في المحبوبة، قضية جنائية، يستلزم نظرها امام المحاكم الجنائية حيث يقتص فيها من الجاني للضحية.
وفوق ذلك، كان الراحل سريع البديهة، يخزن المشاهد، لحظيا في ذاكرته، ثم في دقة متناهية، يحيلها شعرا منظوما، مثل ما كان يحدث وهو يتغزل في تلك التي ترقص حيث يعرض المشهد وكأنه يتراءي أمام ناظريك:
مسخت عوم البترطن في جروفه
آه يا خلايه فجولي اللشوفه
الصدير رجفاتو ربت لي خوفه
خام ثمار ال الله قال دانيات قطوفه
الرقيبة قزازة الروم في وقوفه
جرعتني العلاقم بي صنوفه
بروقيها الداره لخبطي لي صفوفه
خلي حسادك عديل تخضع أنوفه
ديسا شوف عيني منو شكت كُتوفه
الا دايما نافره يا ناس ما ولوفه
صممن جاراتا قالن لي عطوفه
مالا شوفتا لي تشهر لي سيوفه
العلي والبي كلو سبب عُزوفا
لو تحلو رموز أصابع اليد حروفه
وحسن الدابي مع أستخدامه لشعر الغزل، لم يكن بعيدا عن الهم العام. فهاهو يشمر عن ساعد الجد، ويتصدي بكل شجاعة، الي قضايا مجتمعية مهمة، يتناولها بكل خفة ورشاقة ومن دون اشعار المتلقي بالملل، وذلك عندما يأتي شعره، منسجما ومتناغما، مع تقاطعات الحياة اليومية، ومن دون كلفة في صناعته. ومثال ذلك تعبيره عن فرحته وفرحة اهل القرير عندما فاز اسماعيل حسن بالدائرة الانتخابية:
اهلا بيك ومرحب اخونا اسماعيل
واهلا بالمعاك رجال تخمد الويل
فوزك بيهو فرحان القرير بالحيل
ياك ولدنا مننا لينا.... ماك دخيل
الشدرات عروقا اتشابكن في النيل
ونيل ضلهن يشبه سواد الليل
فيهن ينجدع كل البدورلو مقيل
ناسك أهل كرم للماشي جاي سبيل
وقد كان ذو آمال عراض، في ان اسماعيل حسن، سيسهم في حلحلة المشكلات، التي يعاني منها المجتمع، ولا سيما أن أسماعيل ينتمي الي قبيلة الشعراء، لذلك كانت الآمال والتطلعات أقوي وأكبر. فالحال الاقتصادي يغني عن السؤال، وما يعانيه الناس من غلاء في المعيشة، أمر لا يمكن تجاهله أو السكوت عليه، وقد بلغ التضخم شأوا يفوق الخيال:
الليلة هب وبرقو شال
في القبلة تال ناس ود بلال
مولايا يا حي ذو الجلال
مليون من الورق اب جمال
عكس الدهر ما عندو حال
صبحني حافي من النعال
كيلو اللحم الكان ريال
قالولي تاني تجيب ريال
قرش السعوط من بت جمال
من كتحتين تلقاهو زال
لذلك كان حسن الدابي لا يتواني عن مهاجمة المسؤولين، وهم يتركون المواطن نهبا لجشع التجار:
ناس مجلسنا ما فرضوا الرقابة
ويدققوا في الورق ساكت تعابة
من كريمة يجيبوا كل ما لذ وطابه
فانتا وبيبسي تلاجات شرابه
والجزازير لينا سوا شريعة غابة
يفرضوا عليك تقبل ولا تابه
ذلك المسؤول، الذي استأثر بكل إمتيازات وخيرات الوظيفة، ومع ذلك هو يترك حبل السلطة علي القارب، متقاعسا عن أداء واجبه. الامر الذي دفع حسن الدابي قسرا، وهو الشفيف الحامل لهموم الناس، الي أن يهجو مسؤولا، لا يترفق في تعامله مع المواطنين:
كيف سووك مشرف لا شرف لا همه
زي كلب السعر غير تاذي ماب تنجمه
أمية فساد من أخمصك للقمه
رأسك خالي من مخ بس كبير جمجمه
إن كان للضرر كاسيك جبه وعمه
عمل الخير مباغضو عليهو ماب تتلمه
يا الخبيث الافزر الدلهمه
ترياق الضيفا خشمو انضمه
ليك حق يبغضوك وجهك فتيل وضلمه
نضمك ذاتو من فمك نتن كالرمه
كيف لا يهجوه وقد بلغ السيل الزبي والماء الربي وجاوز الحزام الطبيين وطفح الكيل وبلغ الامر فوق قدره.
احساسه بالهم العام، قاده أيضا الي الصدع بحقوق ومشاكل المزارعين، وهو جزء اصيل منهم، فهاهو يبشرهم بوصول المهندس، لاصلاح بابور مشروع القرير:
يا مزارعين ان شاء الله خير
قالوا طمبل طب القرير
تم لفات البوابير
خلي كل واحد دار يطير
بلل الرحراح خلي كير
جاب لنا الوزين بالحفير
وفي الجداول يلعب الصير
وعلي النقيض من الهجاء اللاذع نجده لا يغفل عن مدح من يكدح بإخلاص ويعمل لخدمة الناس، مثل ما فعل مع من قاموا باركاب الوابور:
رابض يا التلب ربضة اسد في الغابة
ربطك حكموا ناس عبد الغني التلاته
ديل المهنتم داؤود بيتملابة
حكموا ربطوا ما خلولو فد تابة
وحسن الدابي وهو يتصدي للهم العام، ومن فرط احساسه الروحي الشفيف وطيبة قلبه المتأصلة، نجده لا يطلب الخير فقط للقرير بل هو يطلبه ليسع كل منحني النيل:
نحن مرقنا شوفولنا الكلد والغابة
هكذا كان الراحل المقيم حسن الدابي، يمشي شعرا، بين الناس، كما يقال عنه. رجل تمتع بسرعة في البديهة، وبذلك الصفاء الذهني، وتلك الذاكرة القوية، فلا عجب أن كانت الجمل الشعرية عنده، تأتي بصورة تلقائية مباغتة، لا زمان ولا مكان يحكمها، ومن تواتر هذه الجمل الشعرية، تخرج القصيدة، وقد اكتست حلة زاهية بعد أن اكتملت لها كل عناصر الجمال الابداعي. رحم الله شيخ شعراء الشايقية، الراحل المقيم حسن الدابي بقدر ما أبدع واعطي واسعد.