قبيلة السكر (1)
*ياسر البهدير
استفزني جدا، ما يدور هذه الايام، من حديث، حول تصفية مرافق القطاع العام تحت دعاوي الخصخصة، وقد درجت السلطة، علي اتخاذ قرارات فردية في كل مناحي الحياة، من صحة وتعليم واقتصاد، لم تشرك فيها، حتي المختصيين، في مجالات الاقتصاد والادارة وغيرها، ولا آراء العاملين، في تلك المرافق، محل الخصخصة، ولم تأخذ كذلك في حسبانها، مبلغ ما يعود من أضرار، بالغة الجسامة، علي مواطنيها من تلك السياسات الجائرة. اضف الي ذلك، انها غير مستعدة البتة، علي سماع اي رأي مخالف، في هذا الشأن! ثم انها، لم تراجع نفسها، بشأن ما جربته من سياسة مجحفة، في حق تلك المرافق، التي تم بيعها بالفعل، ولم يجن منها المواطن نفعا، غير مزيد من التدهور، في كل أوجه حياته. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل توافر لتلك الخصخصة معاييرها المرجعية اللازمة لتحقيق نجاحها؟ بالطبع ان الاجابة بالنفي! فلا هي زادت انتاج العامل، ولا هي خفضت تكلفة الانتاج. بل العكس هو الصحيح، حيث أهدرت السلطة، كل الموارد التي وفرتها هذه الخصخصة، في برامج وانفاق عديم الجدوي، مثل الصرف علي الاجهزة الدستورية المترهلة، والبرامج عديمة الجدوي. فنجاح الخصخصة، يكمن في قدرتها، علي إعادة هيكلة الانتاج، وزيادة إنتاجية العمل، وخفض تكلفة الانتاج. وواقع الحال، ان الدولة عجزت، عن تحقيق ذلك، وتعطلت وفقا لذلك، آليات المنافسة، وتعطلت كل وعود الازدهار، وتوقفت عجلت الانتاج، في معظم المشاريع، التي طالتها يد الخصخصة. وحتي حصيلة ما بيع من مشاريع، والذي ايضا هو معيارا هاما، لضمان نجاح الخصخصة، يتطلب الزام الدولة، بعدم إدراج حصيلة بيع وحدات القطاع العام في بند الإيرادات الجارية، للموازنة العامة للدولة، وهو ما لم تفي به الدولة، بل زادت من وتيرة الاقتراض من الخارج، حتي تراكمت معدلاته بصورة مزعجة. بعد أن وجدت نفسها، في أزمات متتالية.
واشد ما آلمني، حديثها عن تصفية، مؤسسات السكر، وذلك لاني اعتبرها، من انجح مشروعات بلادي التنموية، حيث ترعرعت فيها، وتفتحت عيناي، علي كد وجد شغيلتها، وتفتق ذهني، علي مآثر مجتمعها المعافي، مما ابتلي به الله كثيرا، من مجتمعات الوطن، من عنصرية وتشرذم وشقاق، أذكت الانقاذ، أوار نارها الحارقة.
مصنع السكر، يا احبتي، هو البلد الذي لا يسألك اهله، عن من تكون، ومن أين أتيت. بل يستقبلونك، بالقبل والاحضان، وكأنك فرد منهم، نشأت وسطهم، منذ مسقط رأسك. يرحبون بك، ولسان حالهم، يردد كلمات الشاعر سيف الدين الدسوقي:
والجار يعشق للجيران من سبب
وقد يحبهم جدا بلا سبب
الناس اروع ما فيهم بساطتهم
لكن معدنهم اغلى من الذهب
أهل مصنع السكر، هم الاهل، والعشيرة، والقبيلة، والوطن. يستوي في ذلك، مصنع حلفا، والجنيد، وسنار، وعسلايا، او حتي كنانة حديث النشاة. الناس في مدن السكر، يصنعون الحب، يتصابحون والسنتهم تلهج بالسلام وبالدعاء بالخير لبعضهم البعض، والمساء عندهم، سمر وإيناس، وحين يلفهم الظلام، يهرعون الي مراقدهم، حيث هم علي موعد لادراك الفلاح والعمل باكرا.
يكفي اسمك الاول، وشخصك فقط، في مصنع السكر، لكي تجد أمامك الابواب مشرعة في كل بيت. ولئن فرقت بنا سنة الحياة، المعروفة بالمعاش، غير أن الود، ما زال قائما بيننا، وإن باعدت بينا المسافات، لكن بقي في القلب، ما هو بالقلب.
صاح احد الزائرين للمصنع، عندما راي جموع اهله يتقاطرون، لحضور زواج إبنة اخته، وهاله أن يري ذلك الجمع متفرق، بين من يرفع اعمدة الصيوان، وبين من يتولي معالجة الذبائح، وبين من هو مشغول، بتنظيم الكراسي والمكان. كان الكل يعملون، كخلية نحل، بهمة عالية، كفريق واحد، وفي تناغم وانسجام. فتملكه الغضب، وصاح في اخته، وقد حسب ان اهل المصنع، عمالا مستأجرة! وهو القادم من منحني النيل، لحضور تلك الزيجة والوقوف مع أخته، لاداء الواجب. فصاح في اخته: انتي وكت مستأجره عمال، جايبانا لي شنو! قالها، وما يدري الرجل ان هؤلا، نفر مستنفرة، لأداء نفس الواجب، من قبيلة السكر، الذين يجري منهم السكر، مجري الدم. قال ذلك وفي عينه دمعه، وفي حلقه غصة. ولما ادرك الرجل، ان هؤلاء هم الجسد الواحد، الذي عناه المعصوم، صلي الله عليه وسلم، في قوله: (مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى). فلم يتمالك الضيف نفسه، فبكي وقال: لو كنا ندرك ان لاختي اهل هنا، وبهذا الجمال، لما تكبدنا مشاق الطريق، وتركنا عملنا واتيناها، من تلك الديار البعيدة.
ذلك هو مجتمع السكر، وهؤلاء هم نفر قبيلة السكر، لا فرق، ان كنت في حلفا او عسلايا أو سنار، لذلك لا اخال، ان البروفسور وداد المحجوب، رئيسة قسم البايلوجيات، بوكالة ناسا الامريكية لعلوم الفضاء، لا اخالها مبالغة، حين صدعت بالقول، مفتخرة، بأنها ولدت، في اجمل بقعة علي الارض، ولم تكن تلك البقعة، التي خصتها بهذا الشرف، هي منهاتن أو ميامي أو هليوود، بل كانت مصنع سكر الجنيد. تلك هي مصانع السكر، التي توشك الانقاذ بيعها، وبثمن بخس، للمرابين والسماسرة والارزقية، وذلك هو مجتمعها ذو النسيج المتفرد.
يتبع