[rtl]ضراوة الحنين.. نداء الرَّمقُ الأَخيرُ
ناصر البهدير
لم يكن الخبز من بينها حتى أصنع لشخصيتي أوراقًا وأغادر على عجل، وفي صمت مطبق، وكثافة أشجار من الشجن تتنفس وتطوق وتخنق أضلعي بالكربون القاتل. بالطبع لن أتحدث عن سحب أدخنة النفايات، فتلك أسالوا عنها القاتل المبير الذي زرعها بدهاء ومكر إخوته الثعالب جوار جبل الكلب لتنمو باتجاه كبد سماء الخرطوم.
غادرت وعقد من سنوات الانتظار المرهق ينتظرني على شطء الموت ورهق صفيق الأجنحة التي تصارع الريح الصبي والنزق. وبين إنشغالاتي تلافيف من أشواك سدر الغابة يرتكز على يدي، وعطر البستان يختبئ بين حقائبي لأتزود منه لقادم الأيام التي ظننتها قليلة.
قليلة تلك اللحظات المنسربة خلسة من الذاكرة، وكثيرة هي الأيام والسنوات التي تعمل على هدم ما تبقى من العظم وتنخره حتى النهاية والتفتت.
ضراوة الحنين كانت أقسى من كل شيء ومن تعب البحث عن ثمن فتيل البنسلين في ليل موغل في النسيان والعويل وأشياء تجد لها دموعًا خير معين.
بؤسٌ لا يمكن أن تصفه الكلمات حين تركته خلفك هناك أو هنا، فالمسافة واحدة تحيط بخاصرة القلب وتدميه.
من صحراء رمل الرعب جئت وعبرت وبعضنا يعرف الآخر عن قرب ومشقة.. زبدٌ العواصف يعلو على شفاه النهار والليالي، فالبحر لا يغادر إلا ضفتيه مخنوقًا بمد الهروب وجزر الغياب على حواف الأرخبيل الصغير. سيان الماء الذي يسكنك لاهثًا من النيل الرهيف وعابثًا وهازئًا من الخليج الشفيف! عذوبة تستقر أسفل حلقك وملوحة تبيت بين جوانحك ولا تغالب إلا ظنك وهاجسك المرير، وانت تقاتل حد الرمق الأخير، ولا تستثني إلا طيفك الشارد في الوحل ودرجات الرطوبة التي تمتص كل شيء.
أنت تسرف في موتك البطئ ولعنتك الأبدية ودهشتك من مطاردة البعض لإستحلاب النقود كأنهم آلة تصنع كل شيء بمقدار بما يشتهي الآخر وخياله الأرعن.
تعبٌ يتدفق على مهل بين أوان الوقت وصرير أواني الغياب ولا أحد يشعر بالمعاناة والضنك سواك.
الملاجئ هي نفسها الملاجئ والمرافئ هي نفسها المرافئ التي اختفيت فيها ساعة ليل يدثرك من شرّك وحنينك وأشواقك، حينها بزبد القهوة ونثار الحكايات، وحينًا بسطوة الطقس الذي لا يترك لك شيئًا من الحجة لتقارع بها الواقع.
ومن يستثمر في الغياب إلا طائر الحنين الذي لا يهدأ لخفة وزنه أو ثقله؛ فالأمر في عناق السديم حالة تعود إلى القهقرى وإلى سنوات فائتة تصنع تيارها اللاهب وشذا عطرها الفواح على أرصفة تتعاطى البؤس والخوف.
حلُ مترجل حين حزمت وطويت نفسك وأشياؤك الصغيرة والكبيرة ورهنت نفسك لسفر السحاب. سفرٌ لا طائل منه البتة وإلا وأنت مسجونٌ كحزم الجرجير بين الباعة الذين يدفعون الرشا عن محبة ولذة وانتصار.
جولة أخرى تتنفس عبرها، زخومة البحر واستواء قطراته الراعفة.. كنا، وهم عالقون بين مساحات الماء والتيارات الصاعدة والهابطة والسكون الذي لف كل شيء وغمره مع صعود القمر.
ما كنت رقعة جغرافية حتى احتمي بإستفتاء عاجز ينقذني من خطر توغل الوطن الكبير المارق من بيات الروح.. وطنٌ مخمورٌ وعالقٌ في صديد بهاليل المدنس وحيامن لصوص المقدس.. اسكرته حبات الشعير وحشف التمر والحبة السوداء وكثير من تمائم العوز. مات في نشوته على أسف الغياب، مصلوبًا على حوافر خيل القبيلة الراتعة في سنابل حقول الدم.
ما كنت أبحث عن زجاجة السمن وقيمة الثمن المقابل لعقار يقتل طفيل الملاريا ولا على حقنة شرجية أسد بها باب فقري ولا شيئا من هذا القبيل سوى حياة أكثر من عادية على الأقل نرخي سمعنا فيها إلى صوت طيور الجنة وهي تعربد على أغصان شجرتنا الكبرى التي قتلتها الحيرة والضنك وتلك القرود التي تحمل هتافات السماء وأولئك المرابون بسعر النخوة في الشوارع المخطوفة بأنفاسهم النتنة.
فخٌ علقت بين متونه حتى صرت كالجثة المتفحمة والمتشظية والمتحللة بفعل هدير الديدان الشريطية والكذبة والبصاصين. واستثني الصارقيل صديقنا القديم بين متون النيل وترعه العديدة... هنا، وها هنا، وهناك حتى اغتالها نسل التراب الذي زحف رويدًا مطمئنًا عابرًا الحمض النووي لخلايا وطن يترنح في الغيبوبة وحشرجة الموت الزؤام. نفارقه ويفارقنا بمحض اختيارهم عندما نفخوا بوقهم فجر يوم طيب.
لا شيء يمزق مثل محتشدات المهجر وتخيلاته وتمثلاته الفظيعة والتي لا يمكن معها الصمود في أتون جحيمها ولهيبها. هي الحرب الداخلية المشتعلة بين الفينة والأخرى في مسارات متقاربة تظل كوميض الجمر اللاهب. هي الحرب التي تخوضها مجبرًا بلا سلاح سوى حفنة من ذكريات بائسة تكاد أن تكون باهتة للحد الذي يغتالك عنوة كمعتوه وتعيس وبائس بين رصاص الذاكرة.
الذي ينخر الجسد الواهن ليست الرأسمالية ولا الاشتراكية ولا النازية ولا الفاشية والا الإنكشارية ولا المغول ولا التتر ولا البرابرة: جهاليل ومهابيل استوطنت ولوثت قعر مياه أطول أنهار العالم: النيل العظيم.
أمة من لسان النار والهجير على رأسها دُويِبَّةٌ من الزَّواحفِ ذواتِ الأَربعِ، ملساءُ، أَنواعُها كَثِيرةٌ تمتليء برهاب الظنون وسوء الأفعال المقيت على رأسها العظارِيُّ الكبير.. ذكرُ الجراد الذي أحاط بخاصرة الوطن ووسده الثرى وارتحل معه.
أم رهطه المأفون يفعل كـ(فعلِ الهِرِّ يفترِسُ العظايا)، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف. ولا يزال القطيع بفكه المفترس يقضم ما تبقى من هشاب البلاد.
أسئلة شائكة ومعقدة تتهادى وتفور وتغلي كتيار الماء الذي يمر أسفل جسر المحرق الذي أعبره عند المساءات المعطونة بزُّخُومةُ ارتفاع درجات الرطوبة العالية، وزُّهُومةُ ريح مياه خليج المحرق التي تتصاعد بين منخري.
رائحة رخويات وقشريات كريهة، وثديات بحر تلهث وتعبث بالماء الأجاج، ألوان زرقاء تائهة ما بين جزيرة المحرق ومنامة البحرين تتخللها نوارس تشق ضباب الذاكرة الملتهبة.
ضبابٌ يخطف ظل الماء المصقول ويدفن نفسه في مرآته اللامعة. تود أن تسافر فيه وتحتقب أمانيتك، وتطفو كالزيت.
أتاني وجعًا خفيفًا بلا أثقال ولا حجارة تشد البطن المتكورة وامتزج برائحة الماء المخلوط؛ أمقرن النيلين أما البحرين حين التقيا على صهد زبد الجغرافية. وفي الماء كل شيء ينضح بالراحة والعلاج. ومن يطببني أوان هذا الدُجُنَّة! غيهب يوغل في العتمة.
والحرب سجال... وقد روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب المغازي أنه بعد أن انتهت غزوة أحد وهزم المسلمون، أقبل أبو سفيان عليهم وقام بالتفاخر أمامهم، ومن جملة ما قاله: "يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال...".
نخوضها حتى العين الأخيرة من البئر. فالمنتصر قادم وإن طالت المفازة. فالأنانية خيانة لطالما تمس المشاركة: جوهر العلاقة بيننا.
حتمًا لم يرضعوا من ثدي النيل الكبير ولا شغفوا بطينه وجروفه فقط تعلقوا بسيقان طيب الخدم، ونسجوا من عصارته على نولهم مشروعهم الخاسر. انشغلوا وانصرفوا لسد رمق جوعهم الذي انتصب بيننا كالأخدود العظيم.
بت أنفقُ وقتي في المياه المنتصبة بيننا، وأوشك الليل أن يحصرني بين الأنا والتاريخ. كلما خلت اللحظات أشعر بأنه يدحرني على أعقابي ويطحنني بين حجر الرحى.
مضت الأيام نحو عقد من عمر الزمان يسحق كل عظم وكل الجوانح بلا استثناء. عشرة أعوام كفيلة لتضحك وتبكي وتمتعض وتنتصر وتفشل وتغني مع ذلك ما حدث. ويضيق ويضطرب الصدر بالهمِّ ويعتلج الموج ويلطم حظه.
وكانت أحلك السنوات وأبيضها كما قيل في الأثر الشعبي: "إن العشر سنوات الأولى هي أصعب أيام الغربة".
وصديقي منصور الصويم يوصمني بالرومانسية حينما وصفت له وجبة؛ الحوش الوسيع، بينما رفيقتي توسمني بخلو طرفي من هذه الرومانسية! إلى أين المسار! على صراط النيل أم البحرين! رغم أن الماءُ رقيقًا بما يكفي لأنسخ لروحي متاهة واتدفأ بها بعيدًا عن عُلُوج الروح وجلافتها وغلظتها.[/rtl]