[rtl]نبيل الصادق.. صبِيح الرُوحُ الشَّفِيفُ
ناصر البهدير
في مهد أيامنا بمصنع سكر حلفا الجديدة، تَلَفَّعنا بأثواب قبيلة السكر، مفصلة على مقاس مختلف أطوال جميع أنواع قصب السكر حتى تساوينا في النهاية كمكعب السكر الأبيض. كل شيء ينمو بميزان القسط الأخضر الذي طهرنا من داء الإثنية القاتل منذ جاء الأسلاف الأوائل في مطلع ستينيات القرن العشرين في مهمة غرس أعواد قصب السكر في حقول البطانة (أم هبج). فكان الحرث والفلاحة أعظم مما يتصور العقل؛ قبيلة خضراء بحجم الوطن علاوة على مكون اقتصادي رفد خزينة الدولة. فقطفنا الريادة في سبق سجل الوحدة الوطنية. وحصدنا خير الثمار؛ سكرًا أبيضًا بلون نوايا قلوب عشيرة السكر.
كنا حين نسير سحابة يومنا بين بهيم الظَّلْماء تنبت أعشاب الحكايات العطرة ويمر طيف همس طريف وعذب بين أطراف النسيم. يتعانقان في هدأة الأنفاس، رايات تخفق في الأعالي بين ضباب الأدخنة التي تعبر طوال اليوم بلا تعب في مسرى حميم يمتد على مسار الأفق متسربلا باليقين.
ما أن نكتفي بنثيث الحكايات وغطاء الدياجير التي لا تنتهي في العادة على حدود عتمات الليل، نمضي في مضمار الارتهان لتعاضدنا متلهفين نسابق الريح في هرولة مجيدة لننسج عشق حبنا للبلد ولا نبلغ مع ذلك أقاصى طلع عود قصب سكر يصارع السماء. ينتصب العود شموخًا وإباءً وكبرياءً وعزةً مثل صاحب الظل الطويل؛ مهيب الطلعة.
الكائن الملائكي؛ مظهرًا وجوهرًا. كان أجملنا وأرقنا مثل الضوء على استقامة واحدة يعبر صراط السديم بلا ضوضاء. وفي مُسامرة الليل نتدثر بسحابة الشجون ونغزل آهاتنا ونغسلها بالونس الشفيف وبريق غمام لامع يضيء أفق المكان. لا شيء يعكر مزاجنا حتى طائر السقد يشاركنا بزهوه ونفوره ويصطفينا كما اصطفانا نبيل الجميل ضمن دائرته المتسعة لخلق الله ومجمل كائناته.
دفاتره تفسح للأخضر الريان مساحةً حين تشق وسامة الأرض معلنة عن نبات وضيء ونضر. فلح الأرض وحزم أعشاب الله البهية بلا وجل تملأ أكفه الضراعة حين يهبها للكون بلا من ولا أذى.
سنوات مثل سيقان قصب السكر، ممتلئة بخير الله العميم الذي اختص به أرض مصنع سكر حلفا الجديدة. على مدار ثلاثة عقود من عمر الزمان.
كيف يجوز لي أن أحكي عنها تحت ظلال غيابه الفاجع رغم حضوره النبيل فينا. حمل سر تلك الأيام التي جمعتنا في حقول السكر مُذ مطلع السبعينيات مرورا بفترة الثمانينيات وليس انتهاء بعقد تسعينيات القرن الفائت، ومن ثم تفرقنا كل إلى حال سبيله. وجمعتنا الأيام على تفرعات الطرق ومفترقات غربتها المريرة.
نبيل التِرْب، الزّميل، الجّليس، السّمير، الصّاحب، النّديم، الرّفيق، الصّديق، الخِلُّ، الأنيس، النّجي، الصّفي، القرين، والأخ الذي لم تلده أمي كما السرمدية لا يعرف البداية كما لا يعرف النهاية في حبه للآخر، هكذا كانت علاقاته الأنيقة في سفر تزهر أشجاره على حواف الطريق الذي نحب أن نختم به الأمل الذي تعلق به حتى عاش سعيدا في خدمة الآخرين ينثر حضوره العميق توهجًا مُذ أن ولد بمدينة رفاعة من يوم الأحد الموافق 21 من مايو 1967م.
وعمده السكر رجلًا صنديدًا ذا همة وعزيمة حين مر بمدرسة (أ) الإبتدائية ومدرسة المصنع المتوسطة بنين حتى وهو بين أحضان قضروف سعد دارسًا بالمدرسة التجارية حمل المصنع بين حدقات عيونه وقلبه الصبي، إلى أن عاد إلى المصنع موظفًا بقسم الخدمات الإجتماعية ومنها احترف العمل الزراعي والتجاري حتى غادر المصنع بعد منتصف التسعينيات من القرن الفائت مغتربًا بالمملكة العربية السعودية.
ما بخل طيلة حياته العامرة بالخير في مد يده لنجدة الآخر. فكان البوصلة والساعد الذي غمر المصنع بأعماله المديدة منذ نشاطه الباكر في الرياضة، بل لم تصمد أياديه مكتوفة في دفع العمل الثقافي والاجتماعي والسياسي وغيرها من جملة القضايا التي جند لها نفسه بكل ثقة وحب من أجل رفعة البلد الذي أحبه بإخلاص منقطع النظير.
استمد ايقاعه من صفاء روحه العذبة ونقاء عيدان قصب السكر, ومضى في سبيل الحياة محبًا للجميع؛ صغيرًا وكبيرًا. وفي أيام المصنع كنا نتدارس الرحمة في مسامرات لا تنتهي إلا بصوت نبيل شاهرا هتافه: الله معانا.
شكل حضوره الباكر بكل إريحية وإلفة مرحلة مهمة في وعينا، محلقًا في مجالسنا بطول بهائه الفارع وسلاسة حديثه العذب وقفشاته التي لا تفارقه البتة حتى في أوج غضبه النبيل. يعلو صوته حين تضام خمسين بيت أو منطقة الموظفين أو المصنع. تسرمد ود سعاد في عشق الله والوطن والهلال ولا يجارى في ذلك الشغف.
انخرطنا كرفاق صبا بآصرة الود جدلا وتشاحنا وعداوات مؤقتة وصداقات دائمة. وكان نبيل جنديًا مخلصًا للجميع وداخل حديقة عائلته ومجتمع المصنع الذي بادله الحب.
لم اجد له مثيل في إخلاصه لرفعة وتقدم المصنع عموما كما لا أنسى ولائه المطلق لشارع حي العرب موطن عشيرته وأهله ومحبيه. نبيل كالأرخبيل ممددًا عشقًا أزليًا نحو أمنا سعاد، وأبيه الصادق الزين محمد، وشقيقه محمد سند كتفه وحيله، وشقيقاته نجاة وندى وحرم. الدار التي احتملت شقاوتنا وشغبنا وجنوننا. يغزل خيط ألفتهم المديدة على نول وده المتصل ولا يتنازل بل يجاهر بالمحبة التي سكنت قلبه.
وكانت دار سعاد قبلة المأويّ وأوبتنا ومقيلنا وبيتنا الذي عصمنا من الكثير. نلجأ إليه أوان التعب مطمئنًّين في كل حين ولا نتردد في اقتحامه. نؤَوِّي إليه في الظهيرة الحارقة وصهد النهار وزمهرير الليل. مشرعة أبوابه الرحيمة والرقيقة كقلب أمنا سعاد. يا ويح قلبي ما أنفك هائمًا هناك بجوار شجرة العرديبة والحوش الفسيح الماهل وتلك الأركان التي اتخذناها لوحًا لمعرفتنا البسيطة، وقمنا بتسجيل كل شيء فيها من أحداث تاريخ تلك الأيام الرائعة.
الحروف لا تنسى ما بالك بالكلمات والجمل الأليفة والأنيسة والطرائف والمواقف والنوادر والمقالب التي يصنعها عمنا الصادق وأمنا سعاد رحمة الله عليها. نشق سكون البيت الوريف ونهد أركانه بجلجلة ضحكاتنا، ويمتد شغبنا إلى هندامه وجماله ونحيله قطعا ممزقة وأرتالًا من الفوضى ولا أحد يتذمر.
كان الشعور بالخسارة مؤلمًا حين بلغني النبأ الأليم في يوم الثلاثاء الأسود الموافق الخامس عشر من أكتوبر عام ألفين وتسعة عشر. باب واحد دخلته ولم أفق منه حتى اللحظة. توقعت حصول معجزة. رجل رشيد ينفي الخبر الفاجع أو طائر سقد يعبر الآفاق ويتلو تغريدة الحياة أو شيئا من ذلك. ايقنت بمرور الوقت بغيابه ورحيله المر. لم أكن شجاعا بما يكفي لأكذب ما يجري ومساء اليوم يمضي بنا في دهاليز الذهول ولا أحد يصدق ما تتناقله الأسافير وفضاء الله الواسع. كنت مشوش الذهن والبصيرة ومكلومًا، مثل أيَّ إنسان فقد رفيقه بغتة.
مرت تنهيدة عميقة ببطء، فقدت فيها كل شيء وانعطفت إلى سيل تلك الذكريات المشتركة التي مزجناه في حي خمسين بيت وامتد محيطها إلى المصنع وانداحت إلى حلفا الجديدة والقضارف والخرطوم وجدة والرياض أخيرا. مشينا المشاوير الكافية لأتعرف عليه عن قرب واحظى بعشرة صديق نبيل ونادر على طريقته في معاشرة الناس جميعا.
هوّة سحيقة سقطت فيها حتى يوم الناس هذا. بت ساهما وليس على حافة الهاوية بل في بطن الهاوية حتى اصابني السقوط المدوي في مقتل.
داهمنا ليل لن ينبلج فجره وإن تطاولت السنين. قطع فاحِمة تتراءى كنتف سحب داكنة سوداء تلف كل الأمكنة التي نعرفها ولا نعرفها.
نبيل كتاب كبير محتشد الأسطر المنمقة بالخطوط الأنيقة لم نكمل قراءته بعد. كنا نُمني النفس بالمزيد من حوض نهره لترتوي أراضي عطشى فينا لنمير كفيه الوفير. الفقد جلل وكبير. فقد لم نر نظيره على الإطلاق في سكرنا الحبيب على مستوى أحياء الموظفين بل في المصنع الكبير.
حباه الله بموهبة فريدة تجلت في أنامله التي ينقش بها الحروف على رقعة التدوين. خطٌ بهيٌ وبديعٌ يرسم به الكلمات بمهارة كما اعتاد أن ينطقها عبر لسانه الفصيح بكل طلاقة دون تلعثم فوق ذلك لغة ناصعة وآسرة تنثر ثمارها كما أياديه البيضاء حين غطت سماء المصنع كسحب خريف البطانة الماطر. ولا تزال صدقته جارية كالأتبراوي حين يشق البطانة بطمي الخير الوفير.
لباقة لا يجاريه فيها أحد ميزته عن أقرانه وجيله حيث استمد جذورها من واقع تنوع بيئة المصنع. وكان صاحب مفردة بسيطة وبليغة وذات طلاقة مائزة تصنع ثقافتها على محمل الجد. يمزجها بحنكته ويغمسها في حبر ذاته المصنوع بعفوية حتى يسيل ويتفجر في مهرجان من الاصطلاحات المحلية مثل (راجي الري- شغال بجاز المصافي – ولادة الفروقات – سمح العلم – ود الخالة – سمحة البتوري.....).
نقَّحته السُّنون وعجمت عوده اللدن وأضحى علمًا من أعلام المصنع كما كان رجلًا له كلمته وسط عشيرته برفاعة على ضفة الأزرق الدفاق والعِقيدة على ضفة نهر النيل العظيم.
نبتت بيننا لُحمة مودة ومحبة، وأواصر إخاء نُسجت من خلايا حبل سُّرِّيّ واحد، يصعب وصفها بالكلمات مع سليل أجمل الذين نحبهم من أرخبيل السكر العظيم. بات نبيل يتحرك ضمن ايقاع ثابت على أمشاط حيويته الفذة ووجه الصبوح والمقبول عند كل زاوية ومنعرج.
لا ينفك في تواصله الأغر ونحن في مرافئ الغربة ينفحنا برذاذ كلماته العطرة: (كيفك ياشاب أتمني أن تكونوا بخير.. إتصلت عليك مشتاق أسمع صوتك لقيت تلفونك مقفول..). ماذا بعد ذلك!
رغم مشاغله وعلاقته العديدة ما أنفك في سيرة أصدقائه وزملائه وأقرانه سائرًا بالمودة مثلما ظل ثابتًا في حبه لوالدته سعاد؛ سيدة نساء خمسين بيت.
عند منعرج كل رسالة مضمخة بأريج أنفاسه الذكية، أجد نفسي عالقًا بين أحرفها وقيمة ما تحمله من وفاء نادر... (ناصر.. ايوه محمد ابراهيم كابو.. محمد عمر بحر ده كان قمة في الادب والاحترام.. وكان بيننا مودة كبيرة تعرف وانا في الابتدائي كنت بمشي ليه في المحطة كانو ساكنين هناك.. وليه مدة طويلة في بالي وما لاقي ليه خبر.. واتمني ان اجد له اثر.. تحياتي لك مجددا يا غالي..).
امتلك طُول الباع في برِه بوالدته وإِمْتنانه، بل بجميع أمهات المصنع. لم يهمل فرضه ويتقاعس حتى اختفت بقية أنفاسه العطرة. وفي ذلك درج على مخاطبة جميع أصدقائه ومعارفه وأهله بأسماء أمهاتهم إكرامًا وإِحْسانًا لهم.
وتفرد بخفَّةُ الرُّوح، البشاشة، الهشاشة، الظرافة، اللطافة، ولين الجانب.
والحق أن حضور نبيل في حياتنا لا يقتصر على شعاعه الباهر. التقط خيط علاقاته ونضمه بدماء قلبه الكبير وخير منابت حقول السكر. من صميم روح وثابة ودفاقة وصلبة وندية. تخير دربه منطلقًا كمذنب حتى اختفى فجأة بدون وداع يليق بجلال محاسن دفتره الأخضر.
في ظهيرة حامية لوح لنا بيده البضة وغادر بكل وسامته وسمته الشفيف، ورحل كومضة سريعة مشرقة. غيمة سوداء التفت حولنا وغطتنا. تتراقص كأحرف نبيل على الورق المقوي على جدران الروضة الشرقية لامعة يختلط حبرها الأزرق الذي أحبه حد النخاع ولا يروم غيره. وعلى الجدران خط أجمل العبارات عابقة بفوْعة حبره. وفي خضم شذًى رسائله التي تصلني عابرة بين أودية البلاد كنت اتنسم نكْهة خط يراعه الجميل، ونفْحة روحه الطيبة.
غرقت في اللجة وفي قعر أعمق من الكرب القاتل والنشيج المُرُّ. ولوهلة أضُحيت بين عواء ذئب الصدمة وخُشارم ضبع الغُصَّة وبين كليهما صورة نبيل الرشيق تتراقص أمام حشد من أضغاث أحلام وكوابيس تعبر حزام البان نحو أفق بعيد بعيد أجهل نواصيه وأقاصيه.
انحدر النهار الشاسع وغاب الضوء الأزرق الوهاج وشرخ باب الحياة وأغلقه نحو عتمة داكنة احتوتنا. دفقات ترح كالحة وعميقة تجتاحنا. سيل حُرْقَة يجرفنا في هزيع الليل وحتف مناحة تلاحقنا في الصحو والمنام. ربما هو الشيء الوحيد الذي يستحق أن نفسح له المجال في غياب أنبلنا وأصدقنا.
ما كنا نصحو في فجر المصنع الأغر حتى يطوقنا كرم الصبِيح نبيل من كل جانب. صنيع معروف تمده أياديه على اِحْتِشام. يأتيك ملِيح, مُتَأَلِّق، وبرَّاق ينير الدروب للجميع ويتلألأ كمصباح بهيج ومٌشِعّ. لا يدَّخر وُسعًا في حبه للناس حين يمشي في خدمتهم بلا انقطاع. يبدأ يومه وقلبه معلق بالناس ومساعدتهم لا يحيد عن أمانته قيد أنملة. غوثه يتصل ونجدته تتضافر لم تنقطع إلا حين سكت نسيسُه: مات.
تعجز الكلمات أن تصف كثِيرُ نَّوالِه حتى أبيات أبوالحسن علي بن العباس بن جريج، المعروف بابن الرومي الشاعر العباسي لن تبلغ مراميها وإن كانت بليغة: (كأنما القْطُر من ندى يده والبرَقُ من بِشْرِهِ ومن ضَحَكه).
فور سماعنا النبأ الأليم، وأثناء طريق رحلتنا إلى محاريب العزاء، تداعت صور متداخلة غائرة في الذاكرة. صور يصعب الامساك بها في اللحظة. صور هاربة صوب المجهول. سراب يتراءى في البعيد ويرسم مفازات مهلكة.
تذكرت حركتنا الكثيفة في شوارع الحي وجميع أركان المصنع، منطلقين من شارع لآخر. تذكرت تلك الأشجار الباسقة والطويلة؛ شجرة المرشدات المكان الأكثر دفئًا لملتقى أبناء الحي على متكأ جذع كان يمثل لنا الحياة وبل أكثر. تذكرت شجرة الحيارى حيث إزداد وعينا أكثر بخارطة المصنع، شجرة مدثر ميرغني ملتقى الظهيرة والشغب أوان العودة من المدرسة، حزام البان مسرحنا الجميل لخيال طلق يرعى في الحقول الخضراء، مطار المصنع ومشتله ومتابعة حركة طيران رش المبيد الحشري حتى تحوله إلى مزارع لأهل حي الموظفين.
تذكرت كل حدث صغير وكبير بمعية نبيل الصادق رحمة الله عليه. تذكرت دراجته (الدبل)، هندامه الأنيق، جلبابه الناصع البياض الذي يظهر بشكل لا يشبهنا. تذكرت مشاويرنا على شوارع الأربعين، الردمية، الترلات، والبركس وغيرها من الطرقات والأزقة التي مشيناها بالمحبة والغناوي والحكايات. ما أبهى نبيل!
تذكرت ما تبقى من جزارة عم سعيد رحمة الله عليه، ميدان حي خمسين بيت، ركن بيت إبراهيم صالح رحمة الله عليه، ركن بيت عبد الله خالد رحمة الله عليه، ومناكفات خالد زرقة في مساءات الحي الزاهرة. مناكفاته مع أمير عثمان خالد، جعفر عوض حسن أبو سوقي، محمد يوسف عبد الرحمن (كتائب)، محمد سيد أحمد الحسن (بيبي)، هيثم عبد العظيم محمد صالح، فيصل محمد الفكي أحمد، صالح محمد صالح فقيري، طارق الطاهر عبد الله موسى، جملة أبناء خمسين بيت.
تذكرت حواف الترعة العفنة حيث كان مجلسنا يتلو الحكايات تحت ظلال لهو بريء جمعنا. مجالسنا إذا خلت من السمير نبيل، جفَّ المزاح، واندحرت البسمة، وماتت الضحكة، وإذا غاب مصطفى حسن أحمد فضل الله اختفت الحكاية. حضورهما يصنع السعادة والمتعة بيننا.
مع نبيل كنا نغرق حينا في الضحك وتارة في الجدية. سرعان ما ينتقل إلى النصحية وبذل كُسوة العمل. وبذل الغالي والنَّفيس.
مشاهد لا يمكن حصرها. مشاهد حية تؤرخ لسنوات مديدة عاشها بيننا طيب الذكر نبيل رحمة الله عليه.
لا أذكر في أيام المصنع بأن نبيل رحمة الله عليه، يفترق عن خطواتي. يطيَّب نفسي كلما أدلهم بها سأَم وضيق. سرعان ما يسلَّيني همَّي وحزني حتى انشغل عنه بأشياء الدنيا الجميلة.
ما رأيته مُذْ يومِ صغري في العام 1976، تعلقي بالكتابة والقراءة. هذه الرغبة الخالصة للكتابة غادرتني منذ فترة. بت زاهدًا بما يكفي حتى لا أعود لها. لكن رحيل النبيل الباكر دفعني دون أن أشعر للكتابة بصورة لا تليق بمقامه وتعكس حبي وامتناني له وحزني العميق لفقده.
هل يمكن أن نقول: إن الموت لم يأتِ. لكن دعوني أن أقول في غيابه: إنه وجه الحياة الآخر.
في يوم الثلاثاء الموافق الخامس عشر من أكتوبر من العام 2019م، بمستشفى مدينة الدمام بالمملكة العربية السعودية، أَسلم الرُّوح وأحتضر نبيل الصادق، وطوى رحلة مديدة بأعمال الخير مشاها الراحل بكلِّ تُؤدةٍ ورويَّة، وفارق دنيانا الفانية، ولكن عزاء أصحابه وأحبابه ورفاق دربه وعشيرته ما زال باقيًا حيًا في قلوبهم بذات ألقه وبسمته الصبوحة وحضوره النبيل وإنسانيته الفذة وسمته الخلوق.
اللهم أرحم حبيبنا جميعاً، الراحل المقيم، طيب الذكر، نبيل الصادق الزين محمد (1967 – 2019م)، وتقبله قبولاً حسناً وأحسن عزاءنا وعزاء أسرته وأحبابه وعارفي فضله، وأهل السكر، ومدينة رفاعة بالجزيرة، ومنطقة العِقيدة بالشمالية، فقد كان عَلَماً يُهتدى به في حالكات الدجى.
[/rtl]