بانصرام هذا العام يكون قد مضى على رحيل الفنان الكبير ابراهيم الكاشف اربعون عاما،لكنه مازال طازجا ،غناؤه يدخل الوجدان الجمعى لهذه الامة و(يطوى جناحينو يطير بينا )
بدا الكاشف حيث يجب ان يبدا ، حيث النقطة اشترعها هو للغناء الحديث ، كانت تلك البداية ، بداية لمعارك حامية ، بين اهل القديم وبينه ، من اولئك الذين حاولوا الى كبحه واجهاض مشروعه الحداثى او التحديثى ، لكنه خرج بنهاية الامر منتصرا للحداثة والتغيير الفنى ، وخرج متوجا على عرش الغناء الحديث ، وظل على قمته بلا منافس حقيقى ، فى ذلك الحين اذا علمنا انه كان ( نجارا ) واميا فى ذات الوقت ، لم يدخل من باب المدرسة قط ، لكنه استطاع ان ( يدق كل مسامير الغناء الحديث ببراعة لا مثيل لها ) دقها اوتادا ابدية لا تصدأ ولا تتزحزح
الكاشف ، يا له من مغن لن تجود بمثله الايام ، ربما فى زمان ما ، لكنه سرمد ، واكسير لحونه ما يزال الشجرة التى يرتاد ظلها من يشتغلون بالتلحين ، فهو( جب) الموسيقى الذى كلما نهلت منه ازداد عمقا وبات ماؤه اكثر عذوبة ، فلكم تغنى كل من شاء ان يصل الى بوابة اللحن والكلم الذى لا يضاهى عمقا ،واللحن السهل الممتنع ، يدخل الى القلب حتى ان جاء عبر صوت فنان اخر ، حين تستمع الى الكحلاوى فانت لا شك مستطعما حلاوة اللحن وسهولة الاداء(وداعا روضتى الغنا ) على سبيل المثال ، حكى احد اصدقاء الكاشف والكحلاوى ( انهما كانا صديقين ، وان الكاشف قال للكحلاوى ، لو مت قبلك تغنى الاغنية دى ساعة التشييع ، ولو انا مت قبالك بغنيها ليك يا كحلاوى ، وقالوا ان الكاشف يوم تشييعه كان الكحلاوى لحظة ان وضعوا الجسد على حافة القبر بدا بالغناء الباكى لتلك الاغنية) واضاف الصديق ( تبدو تلك الاغنية كانها مرثية للكاشف )
غنى الكاشف للعديد من الشعراء (خالد ابو الروس ، عبيد عبد الرحمن ، السر قدور ، حميد ابو عشر ، خليل فرح ، المساح )
يلفت النظر فى الكلمات التى يختارها الفنان الكاشف انها رصينة ، وذات حدس عال فى البقاء كالماس لا تتغير مدلولاتها ولا يعتريها الوهن ، تتناسب وكل مقام ومكان وزمان ، فله حدس ظل يقظا فى اختيار الكلمات بلا ادنى شك يحيلك الى صرامة معرفية بلا حدود
صابحنى دايما مبتسم
اشوف جمالك وفتنتك
اتجلى فى وكت الضحى تجد العليل نعنش صحا
الصاحى دون خمر انتشى
يا صادح البال يارشا
بقلبى افعل ما تشا
والكون وراك طايع مشى
وها نحن نمشى فى اثر تلك العبقرية الغنائية ،او فى سياق اخر تجده (حسبما زعم عم السر ان عبيد عبد الرحمن لم يركب طائرة فى حياته لكنه كتب رحلة بين طيات السحاب ، اورد ذلك فى ندوة انعقدت فى مركز عبد الكريم ميرغنى العام 2005 ربما فى شهر نوفمبر منه ) لكن تلك الاغنية تدخل معك كلما دخلت الى جوف الطائرة تتمثل الكاشف وهو يهدى روعك ان كنت تخاف الطيران
ياحبيبى قلبى حاب
رحلة بين طيات السحاب
بختنا انت وانا يابختنا
ويا بختنا بمطرب وفنان كالكاشف ، فلم تكن الدراما فى ذلك الحين كما مؤثرا على الحياة باى قدر لكنه استوحى مشهدا دراميا خالدا حين تستمع الى اغنية (الجمعة فى شمبات ) ترى كم ان الشاعر عبقرى وان الكاشف اكثر عبقرية فى صياغة اللحن
جداول المية كابه
نسايم البشر هابه
كل زول مفتون بزولو
عيون لعيون محاربة
شفاه لى شفاه مقاربة
خليهم يقولو زى ما الناس يقولو
حلات الجمعة يوما
وحلو شمبات مقيلو
لاحظ ( الماء منسابا ) ويدوزن ذلك فى الموسيقى ، ولنا ان نكتشف من خلال هذه الكلمات ( المكان ) لدى الكاشف ، المكان الجغرافى ، فهو مكان تم اختياره بعناية فائقة ، لكل ماهو جميل (روضة ، نضار ، شمبات ، طيات السحاب ، شلال) مشهد جغرافى يعج بالحياة والامل ، وحبيب حاضر دائما وحتى فى غيابه يرجوه ان يكتب له، لانه يعانى
الحاصل بى انا شوق وحنين
واقيم الليل اهات وانين
وهو دوما مهموم بذلك الحبيب ، مشغول (مشغول فكرى حاير مشطوب انشطاب )لكن حبيبه يبدو دائما عنيد ، ويحيله الى الحيرة ( يا محيرنى ومتحير ، انا عمرى غرامك انت وغرامك عمرو قصير ) والكاشف لم يشذ عن القاعدة التى انتجت مجايليه من حيث تذكير الحبيب ، فهو ـ الحبيب ـ صغير ، اسمر جميل ، محجوب لا يتم توصيفه الا عبر ذلك الحجاب (وحجبوه حاسدينى ،
بقوا بينو مابينى ،
لا ادرى ما ذنبى المنعوه من قربى
ابعدوه عن قربى وابو لا يبارحوه
لكنه فى مقام اخر هو نفس هذا المحجوب ، لكن اعلى درجة ، واسمى مقاما انت بدر السما فى صفاك
قل لى من عينى من خفاك
حبيبى متى وفاك ؟
لكنه فى تجل اخر يتلامس معه ( نقلة نوعية ) حيث من الحجب والخيال الى واقع ملموس
والحب البان فى لمسة ايد
يقول شيخنا الجميل السر احمد قدور شاعر هذه الاغنية ان( الكاشف جيتو فى ورشة الوزارة ، وزارة الاعلام ، وحفظتو الاغنية دى ، مشينا عشان نسجلا فى الاذاعة ، قالو لا يمكن ، ليه ؟ قالو ليهو انت لقيتا وين عشان تلمس ايدا)
الكلمة لدى الكاشف لا تنفصل عن اللحن ،فهما صنوان ،فالكلمة تحيلك الى النغم والعكس صحيح ، فانت لا يمكن ان تتخيل (الربى والسهل او جداول الموية ) بدون اللحن الذى لم يفارق الكلمة ، تنساب الكلمات كما اللحن ، وهنا يقول شيخنا الجليل السر قدور (لمن كان الكاشف بلحن فى رسايل ، سال قال ايه يعنى ربى ؟ فقلنالو المكان المرتفع ، فقال خلاص اللحن يجى عالى ،اذكر جلوووووسنا على الرباااااا كان الكلمة فيها صدى ) احيانا ينتابنى غرور وانا استمع الى هذا المغنى المطرب الفنان واحس انه يغنى لى وحدى ، احس اننى تلك المحبوبة الاثيرة لديه ، لذلك تابعته منذ اليفاعة منذ ان كانت ( الشاغلين فؤادى) بالرق ، الى ان غنى اخر اغنياته ، الفته وحفظته مقطعا مقطعا ، وحرفا حرفا ،وجلست الى قرنائه عم السر قدور متعه الله بالصحة والعافية ، فهو من يحفظ الى حد كبير سر هذا العبقرى ، الذى كان له شرف ادخال الاوركسترا الى فضاء الغناء السودانى وكثيرا ما يعترينى الحزن لحظة ان يغنى فنان ما من الشباب اغنية لهذا الهرم الشامخ ولا يحسن اخراج الكلمة او التدقيق فى نطقها ، ليس لان الكاشف مجرد (فنان ) لكنه قامة علينا احترام فنها ، الكاشف ، لك الرحمةايها الفنان الذى (انت عارف انا بحبك ؟ ولا ماك عارف بالمرة ؟ ) ......
من قروب الحقبنجيه