ليلة ود بادي بمنامة البحرين.. نبض الرحيق والحريق
حين يغيب حراس النوايا على ساحل الأفراح وتتلاشى مآربهم المقيتة، وتخلو ساحة الأدب من وجودهم السمج بلا شك ستحط نوارس الفرح لتشعل صمت المكان بالبهاء دون رعود سياسية وأضواء وبهارج ولائم السلطات المتخثرة.. لأول مرة أحس بأن المكان يخصنا جميعا كأبناء بلد واحد دون تمايز في ليلة فاح فيها عبق الشعر الحر وعبيره الذي إنسال وحلق في الأفاق والأعالي صادحا بكل حيوية وقوة بحرية الإنسان ومرتحلاً بنا ومحلقاً في عوالم ندية من الكلم الطيب عبر حنجرة تربال بسيط من بلادنا السمحة..
ليلة استمعنا واستمتعنا فيها وتماهينا على متونها مع همس الطين والأرض وأصوات الوطن وثوار هبة 23 سبتمبر وتلال الصعود وعتامير الصمود وأشجار الصبر وسيقان التبلدي وأغصان النخيل وسيقان الأبنوس وأوراق الدوم وأعشاب النيل وتربالة الجروف وأعشاش الطيور وجذوة الحنين ونثيث الشوق وكل ما يتصل بالماضي والحاضر والمستقبل في بوتقة مجللة بالفخار أعدنا فيها عن قرب ومن جديد رؤية ذواتنا الهرمة والشايخة بفعل أزميل التشرد والنزوح واللجوء والهجرة والاغتراب..
كنا ننتظر على مصاعب قلق جمة، لقضاء ليلة عسى ولعل أن تزيح عن كاهلنا وعثاء طرق الغربة المتعبة.. وبذات القدر والحالة كنا نميد في ضجيج أنفاسنا وروائحنا الثملة بطقس التوابل الباردة التي لا تشجع على الإشتهاء وقضم خبز الحياة الحافُّ في رقعة جغرافية صغيرة لا تتجاوز مساحة مدينة عادية في بلدي حيث جمعتنا هذه البلدة الرؤُومٌ بعد أن لفظتنا مماحكة نخبة خرجت من صلب وطننا المصلوب على مفترق طرق عديدة..
تسربلنا بصمتنا خلف تلال عانة الخوف وتحت وقع صرير الذكريات والغد الهارب والمأمول في مقاربات يشتد لجام خيلها ويرتخي كلما أزبد الوقت وأرعد بالاقتراب.. كل منا يلوذ بشبق يفتك بأرخبيل قلبه المصلوب على قارعة تمتد صوب محاذاة الروح السامقة والمشرئبة إلى العودة للجُذُور وتلك الأغصان اليانعة على ضفاف نهرنا الخالد وكراكير جبالنا الواثبة وشعاب جبالنا الراسية وسافنا رمالنا الذهبية..
وفجأة بهرنا قنديل أسمر وسيم أشعل عتمة الذات والغربة بالضوء ومنحنا الثبات على صدى الذكريات ولهو الطفولة والمنابت الأولى على أرض العنج وتكوين الروح السوداني الخالص حين غمس إزميله في طمي الجروح وخلطه بزققة العصافير وخرير المياه ونبيح البوابير ونهارات وادي العوتيب المغسولة بالغيم ومزارع جزيرة عِبدلّه المتخمة بالحياة ورغد العيش الطيب الحلال وطواحين سلوة التي لا تتوقف عن المسير في دروب سنابل القمح، وأخرى كانت شرقا وضرعا مسموم لغرباء سحت زرعوا حسكنيت ومسكيت الفرقة في وادينا الكبير، ووزعوا سوء الظن والكراهية والظلم والدجل والخوف.. وأجترح شاعرنا ليلته الكبرى بديار طفولته الباكرة متزملاً براحلته ومتدثراً بطوريته بين حدائق زمانه المترع بالخضرة والماء والوجه الحسن..
ياديار حواء المراقدك في رويس عِبدلّه وينك
يا المشاوير المشيتك.. يا المشارع السالكة وينك
بالي فيكي إلا درب العيشة باعد بيني بينك
يا لبينة المغربية النازلة من أطراف سعينك
يا السرابة الحبلى كل الناس تعاين لي جنينك
يا السبايق الساوي شيلك ولا طويرة الجنة تسكر من مدينك
يا السواقي النايحة زيك زي حنان اماتنا في حرقة حنينك
ود بادي لا يزال بسمته الأصيل الذي عُرف به منذ أن بزغ نجمه وفتق فجره وأشرقت شمسه في دنيوات الشعر وفحولة الفصاحة واللباقة والأدب، أيقونة من التراث المعرفي والجمالي والثقافي يتلحفه أينما سار وصعد وامتطى عصا الشعر لا ينسى أهل الخير وكل مسارب ومشارع النيل والوطن.. يحافظ على نمطه بروح شفافة وأنيقة وظرف حديث عذب لا يصنعه بل تجود به قريحته الثرة في فروسية طاغية تنهض على طرابيل كبوشية والنقعة والمصورات ودفء الحمام الروماني الباذخ.. وعِبدلّه عنده مهبط الروح ووَحْيُ الشعر ومصدر الإلهام وسفر الأمنيات والتاريخ والذكريات والحياة والموت..
وتمترس ود بادي في جماليات الأداء الدرامي بحس فني بالغ النضج وانسجام عكس عمق إبداعه وهو يلقي نصه المهاري المفتوح على عدة ثيميات لحنية وايقاعات متحركة تحاكي وقع الطبيعة.. وتماهي المبدع بصدق مع متونه حتى احتل نصه المسافة الواقعة بين المفردة وحركة أياديه المتبلة بالحيوية وهى تلوح كالبشارات البارقة وغبنا وقتها في المسرح العبقري الذي صنعه الشاعر وهو ماثل بيننا في رمزية وواقعية قرنهما كحال مقرن النيلين الذي وقف عنده، مذكراً الجمع بأهمية هذا الموقع الساحر والصوفي المزركش والمطرز بحبات النيل العظيم..
الجنيات الغابت جابت
إنت الجيب بس قايلو قميص افرنجي وكرتونات كرملّة
لا لا وحاتك حاشا وكلا
ديل يوم عادوا اتلافو الجاهل بحقوق الله
ديل كم لحقو البشهق ضايق وداووا العلة
الولد الجايب حقايب سفرو تقال
تقال من جنس كتاب ومجلة
الحكمة النضم إياهو الكان
الحكمة الولد اتوضى وصلّى
عادة البلد الدخلت فيهم سكنت
سكنت ماب تتخلا
نحن كما طارين الحلة ودرنا الطلة
نشيلا معاهم فرح وميتة
حلاة الموت كان في عِبدلّه
حلاة الموت كان في عِبدلّه
ونفحنا الشاعر الفحل الدكتور محمد بادي مساحة زاهية وماطرة ومُخضرة لتصفح أوراق التاريخ، والتعرف أكثر على التفاصيل الدقيقة لقيم الحق والخير والجمال في مقارنة بديعة ما بين الماضي والحاضر حين سافر بصليل شعره إلى أرض جدوده بالقرير..
وشاعر مثل ود بادي لن تلوي الأيامُ كفَّه على العصا، فهو ما زال شاباً وفارساً يتحرق ويتجمر في نيران الكلمة ليخرج للناس أعذب ما يكون حين يستلهم الرمز التاريخي في بديع نظمه الفارع كحال غابات النخيل والتي تمتد بامتداد البصر ورمال بيوضة المرصعة بالنياشين والمعطرة بنضارة أهلها..
بعد عشرين حسبتها يابا يوم فوق يوم وعام فوق عام
حنينكم طش فى طشيش
ويا ما لقيت تملى الحنين جمام
اتلفحت شال الشوق احادى الراحلة لا قدام
كسحت شمال وحس طنبوركم الولوال نحاس ابواتكم الرزام
صليلن يصحى فى الشوق اذا ما نسم النسام
نزلت قرير اهالى الشان يعشو الضيف
بخيلن فنجرى وعزام
كرفت الطينة ارث الفات
وما كفانى الا بركت فوق الدار واتنسمت من السام
نشدت الفى الضريح راقدين عليكم الله يا خالدين
جدى سعيد ولد بادى العكودابى دحين يا ابواتى كان بينكم؟
قالوا اتربى فوق خيلكم ويوم الحارة شايل شيلتو من شيلكم
وقالوا الهيلو، كانت في العرف، هيلكم
يخالطكم قداحة الخير ويتحزم وكت شينكم
وشكاراتو سمعن قولى قالن سى بدن شكرو
وقالن لى يمين ما قلت فى جدك كلام قدرو
وكل القلتو فيه قليل وما قارب عشر عشرو
الصهالة والوقالة والرقالة وام غره هو ركابن
الجهنية والقطنية والمحوية وام درة الباريها حلابن
العشاية والشاشاية والسباية وام ضرة لى ضيفانو بسخابن
المزروعة والمقروعة والمفدوعة لا برة متمسح ديمة قيسابن
المفزوعة والمقلوعة والممنوعة بالمرة كان من مافى جيابن
راكب الفصلوا انسابن ودايما قدمو فى ركابن
اسود الغابة غلابن وبعرف يكسر انيابن
حلفوا الشافوا قدحو الحار وشافو كتار وماهو كضب
قالوا وساعو مركب زان يشيل اطنان وخرسو هلب
جفير سكينو دمو ينز وداك برادو واسكت كب
اهل السايحة والمتراوحة خاتمة وعاقبة بى قدامو سوا درب
ده ماهو كتير على ولدا مربى على ضفاف النيل
ويوم ولدوه دفنو ابواتو صرتو فوق مراقد الخيل
عكود الكان بعبر الكيل
جاتو الدنيا هينة ولينة بالخيرات مشيلة شيل
سواقى تسوق تلوت الليل
ونخلوا متنى شايل العجوة والقنديل
عيوشو مصوبرات كيمان
وعيش الريف ولد تيمان وخاتى البودة والعسيل
بساطو الاحمدى المحضور
غدا وعشيات ملاقية فطور
وديمة ضيوفو ديل فوق ديل
يختف من مطايب الدكة لى ضيفانو مو ضباح حميل وسخيل
طحاناتو ما نامن
جبال اللقمة كم عامن
فوق سمنا مصفى تقيل
ونحن عشنا لا زمناً
قبل ما يبنوا فيه البيت يكوسو الطبلة والجنزيز مع البيبان
زمان الصالة والصالون
زمان الرغوة والبالون
حليل الكان
حليل الدانقة والديوان
حليل النافق اموالو وتدى يمينو وما تعرف حسابو شمال
خليك من يعرفوا فلان
ده كلو فضيلة فى الاجداد ابت ما تبقى فى الاحفاد
ومسكت فى النعوش الطاهرة واندفنت مع الجثمان
وكل مكارم العابرين معاهم راقدة فى شبرين
وبقت امجادنا كانوا زمان وكانوا زمان
ليلة ممشوقة الخاطر بالشجن والحنين، وكانت تفوح بحجم شذى وعطاء النخلة الهامة محمد حسن سالم عمر (حميد.. حمدي.. محمد الحسن سالم حميد) الشاعر الموسوم بعافية النزاهة وكتابة الشعر الجزل والباهي والرقيق والمسكون بحب الوطن.. تناسلنا في الحضور ببصيص أمل أن نسمع شيئا مختلفا في ظل الانحطاط الثقافي الماثل، وقد كانت لنا حبة الثمرة الكبيرة.. ولم يخسر شاعر الغلابة حميد ساعده في حرف يسهم في تمكين شره الراسمال الدميم والكالح ومساعدة لصوص النصوص في وقت كان فيه البعض يعمل ما بوسعه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من خشب قارب المشروع الحضاري الطافح في أتون الحريق والتلاشي وتيارات المياه المتصاعدة والهابطة..
وحكي ود بادي الكثير عن رفيق قصائده الماجدات، وتسامر معنا عن قصة المكالمة الأخيرة التي كانت بينه والراحل المقيم حميد في حوالى الساعة 11:11 ليلاً من ليلة يوم 19 مارس 2012م، وبعدها بساعات غادرنا نصير الفقراء والمساكين وصاحب معجزات الشعر السوداني والانسان الشفيف وصوت الحق والمسحوقين والمهمشين إلى دار الآخِرة.. وحقا رحيل حميد ثُلْمَةٌ لا تُسَدُّ حين تركنا نتألم بصمت على فقدان حادي المسيرة.
نفض ايدك بقيت مارق
عرفت الحال صبح مايل
أبيت ما تخوض مع الخايضين
وابيت ما تبيع كذا البايعين
وابيت ما ترهن الأقلام
كنت حزين وكنت سجين
تر اتفكفكت من وحل البدن والطين
سريت بارق تصاعد بين غمام لغمام
تغيبني وتسوي سواتك
البتدورها يا حميد؟!
تغيبني وتفوت دارك
وترحل من هويد لهويد
تغيبني ووراك تطفي مصابيح
الشعر والفرحة والتغريد
ولسع لينا عندك فيها
باقي قصيد وباقي نشيد
وباقي سلام وباقي كلام
حرام يا حامل الأختام
حرام يا الساري والله حرام
تسافر فوق جناح الشوق
ولسع ما شبعنا كلام
مرقنا وقلنا نتحمل
وبعدك كيف نصل لي قيف
وكيف نتحمل الآلام؟؟؟
غافلت البلد جملة
وبنات نوري الغناها عليك
وغافلت المدن راجياك
بنات الجامعة بالأشواق
يعاينن ليييييييييييك
يدوبن في صدى صوتك
دلال وجمال وديالكتيك
دا انت القت بكرة بجيك
ودونك سامحة جف وشيك
قفلت الورا وقدام وشهدت السما
والصحرا والأيتام واتواريت
بعد صليت صلاة النافلة في التمتام
عجيب يا حامل الأختام
وفي حضرة رثاء عمدة الرواية الطيب صالح وفي حضور شقيقه القانوني بشير محمد صالح انداح ود بادي كالماء سائغا وسهلا، وأضفى ألقاً عبر سلسبيل شعره على روح الراحل ومنزلته المستمدة من مكانته التاريخية، ولدوره الكبير في الحركة الأدبية والإعلامية وكتابة الرواية والمقال. ونعى الموت وكتب روشتة علاج بطعم الدم لمرارة الفقد الأليم لرسولنا المثقف البسيط بين الأمم حين عُرفنا به في شتى المحافل كقلم نابض بالصدق ورحابة الانسانية..
فجر ناحت قميريات
بعد فارق جناها عشيش
وحام رواسي بالحجرات
ينقرش في الوتر نقريش
وجا الطيب يحوم بشويش
يغازل في الحروف الشاربة
من نفس السواقى دغيش
يباريهن يضاريهن يلوليهن يخاليهن
يمرق في القمر بشويش
يغزل للبلد موال وينسج للمحبة عريش
ويرحل ذي سحابة الخير
وين ما تسير
ترشرش بالفرح رشريش
طريتك يا رهيف الحال
طريتك والامانى طوال
وفى أيدك ثواني قلال
متين ترمى عصا الترحال
تموت الغربة وأنت تعيش
يضمك نيل حنان وأمان
وتنزل بقعة امدرمان
مع البقدل وهو عدمان
والبعزم على المافيش
على باب الزمن مرسوم
وبى نهل الخلود اليوم
وبى نهل الأرض مقسوم
وفى كفك دوايا وريش
ومن بعدك غياب وذهول
صام الرواى وأبا ما يقول
ومن بعد العجو المعسول
ايش ما كان مسيخ ودريش
مساحات الفرح بضيق
والأفراح بقت نتاف
لا بتشبه ولا بتليق
مع شروق الصباح
ودعنا احلي صديق
وقبال ما نروق ونفيق
رحل من بعدو تاني صديق
وكيف تطفئ الرتينه ام زيق
وتشعل في قلوبنا حريق
وكيف بعدك نربى الريش
وكيف نقدر نطير ونعيش
يا صالح القلم والروح
بين الطيبات والصالحات مشروح
اشخاصك تلوح وتلوح
ولو كان الرجوع مسموح
روائع حبرك المسفوح
ومسكا من شذاها يفوح يرد الروح
وترجع لي البلد بي شويش
يموت الموت وأنت تعيش
وفي خضم حرارة الشعر وصعود بريق ناره لم ينس الشاعر ود بادي أن يمتح من مكنون شعره ويعطر الجمع الغفير داخل وخارج القاعة بذكرى شيخه وشيخ شعراء الشمال الراحل المُقيم إسماعيل حسن.. فأمتع الحضور بجياد الرثاء الشامخات.. وابتلت كلماته بالدمع الهتون الوافر، واتقد سفره في مزن حزنه التليد، ومضى في نوبة بٌكاء مُر غالب فيه أشجانه وسيرة صاحب الحروف الندية؛ الشيخ اسماعين.. وقدم مرافعة باتعة في أدب المراثي وستظل أيقونته..
أرمي الدمعة فوق الدمعتين ياعين
بعد الليلة حابسها الدموع لمين
نزيف الدنيا من حد البلد غربي
ونزيف الدنيا لاحد البلد شرقي
وجوم عامة الليالي العامره
كل الدنيا خاتة الخمسة فوق إتنين
رحيلك وجعة يا اسماعين
رحيلك نجعة من دار الفرح والزين
رحيلك طعنة في لهات الحبى دريفين
رحيلك وقفة فوق درب العليك باكين
فيها نهاية المشوار وحد الفرحة والامال
وزي ما النيل يضيع في الدلتا يتلاشي
ويموت مشلول انحنا كمان تفيض آمالنا
تنشرا في ساحل المجهول
واي أسفاي
واي أسفاي
واي أسفاي علي حرفاً شمخ في الطول
وكيف الليلة في بطن التراب مسبول
حرام تبلينا يا أيام
حرام تملينا شوق وهيام
ومع تصاريف الغربة التي امتدت به على نحو أكثر من عقد ونصف من عمر الزمان في دولة الإمارات العربية المتحدة بعد أن ضاقت به سوح البلد لم يغفل شاعرنا الدكتور محمد سعيد بادي فحل الشعر الثوري عن رعاية عزيف محبته وراحلته الوطنية التي غَذَّت سَّيْرَها منذ نعومة أظافره، ولا تزال تمضي مع الحداة صونا من صرير جنادب الحلوق وأذاها، فكان لها بالمرصاد خير مداويا ومطببا، ونعم الطبيب والبلسم..
وفي قصيدة حافلة بالحسن والتعبير عن الوعي الوطني والحس السليم، تجاوز بكل يسر وسلاسة ترانيمه المعتادة وأغنياته المسربلة بصدى البعد عن الديار، وقضى وطره من الشعر، وزلزل بالتصفيق أركان قاعة الراحل دكتور نايل محمد نايل بالنادي السوداني بمملكة البحرين، وأحرج أدعياء لغة الحياد وتنابلة المستقلين، وأصلى ظهر أفندية كنيف السلطة بالصهد والنار ودلق ماء الكلمة على سموم ليل القابضون على البارود الطاري..
وأمتع جمهور الليلة الشعرية بجليل الكلم الطيب في قصيدة "نسرينة الاسحار" التي أهداءها إلى زميل دراسته ومسامراته وظرفه ونوادر ملحه البروفسير والشاعر المعز عمر بخيت حيث دارت بينهما كأس من ألوان الذكريات الطيبة والتي إنغمسا فيها بكل شفافية ومحبة الأصدقاء والزملاء وابناء الوطن الواحد.. مساجلات طريفة ومحفوفة بندية الموهبة في منابر الشعر والدفاتر بكلية الطب بجامعة الخرطوم..
والقصيدة تمتاز بنفس لطيف وحماسة منقطة النظير يحي فيها الشاعر الربيع السوداني الذي تمخض عن ثورة سبتمبر التي روت دماءها الطاهرة الأرض الطيبة..
مِتين الجيّه... يالمكسِيَه بالأنوار
زَي النَسمَه في الفجْريَه
بلا إستئذان أدُخلي الدار
وإن شُفتِي السَوانْكي عليّه
أطلَعي من شبابيك الفَرَح أقمار
نحْلم بيكِ وإنتي عَصِيّه
في عينيك منابع الدهشه والأسرار
أرحلي فينا في البدريّه
خَلي شذاكِي زي نسْرينة الأسحار
نسمع بيكي من زمن الأماني صبيّه
لامِن شِبنا وإنتي تَََسَوِي في الأعذار
نغنيلِك علي رَزَمِي الذَخيرَه الحيّه
ونَعَرِضْ في دَلالِيك السّما الهدّار
ونمشي عليكي بين نيران موَلقِده حيّه
شموع الفرحه بين إيدينا والأزهار
عليك يا واهِب الأنفاس والحريه
نعيش أحرار ولا نموت مع الأحرار
ضاقت رُوحي بالحاصِل عليك وعليّه
آه من غُلبي وآه من قسْوَة الأقدار
تسلَمي من قيوداً فيكِ وإنتي بَرِيّه
ماكْ شبه القيود يا قِبلَة الأحرار
ولا بتعيشي في الوحل الوَطَاتُو دنيّه
يالمولوده من رحم اللهيب والنار
بُكره تنادي وأولادك يجوكِي سَوِيا
يَبشِروا فيك .. وينزلوا في مَيادِينك نهار وجهار
ومن وين جيتي يا قُمريه
بعد أجدب سماها وجفت الأشجار
بلد منسيه بي شِعَبْ الصبر متكيّه
زي العُود بلا أوراق وزي العود بلا أوتار
وهسع كيف يكون بدل الغنا المرثيه
وكيف الحفله تجمع بين وجوه الشُهداْء والأشرار
ولا تقابلي العواجِيز المَلُونا أسيّه
خَلِي اللُقيا بينِك وبين شباب أطهار
وهَسَّع جِيتي فاجأتينا يا المسْميّة
قُبَال ما نَعَدْل الحال وقُبال ما نَفُرش الدار
وحَات البينا سالمينا وأصبري شوية
خلينا النَصَحِّي الشُعراء والسُمار
ونحشد ليك جموع أَلْفِيَة فوق أَلْفِيّة
ونَمْرُق في ميادينك صُغار وكُبار
هاك الباقي من أعمارنا والذُريّة
بس لو لحظة يغشَانا الرَبيع المَارْ
ود بادي عرف بمواقفه الوطنية الصلبة والباسلة وقامته الشامخة التي لم تنكسر وتلين أمام جبروت السلطة وسدنتها.. وكلما صعد منبرا أطلق زفراته الحرى وبراكينه وحممه الملتهبة دون خنوع وتضعضع وتراجع وتدبر فيما سيؤول اليه الحال بعد أن تصل رسالته..
وهكذا استصرخ الشاعر حال ومآل أهلنا الذين دونوا اسمائهم في سجلات ديوان الزكاة لينالوا الزكوات والصدقات التي لا تشبه أهل العطاء والإنتاج بعد أن أحرقت السلطة أرضهم وأحالتها إلى بور بلقع ومن ثم أخفت معاولهم ونثرتها في يوم ريح عاصف نعق فيه غراب مارش ثورة الإنقاذ النَّحْسَ على الرؤوس، وقد ساهم نذير الشؤم في تشرذم وتشظي البلاد وانتقالها إلى مربع الحرب الضروس والموت الزُّؤامُ، فبتنا لا نرى إلاّ سوءًا، ولا نتوقّع إلاّ مكروهًا طالما هجير العسكر والعثانين يتربع على صدر الوطن..
وبكلمات قليلة وعنيفة وناضحة بالصدق، فضح الحِمش ود بادي الذين غادروا بيوت الله وتلببوا باستار بيوت كافوري وتركوا أمة الوطن في العراء بين جيوش الذباب والناموس والفقر والمسغبة ولاذوا واعتصموا بالنوق العصافير من غابات الاسمنت المزركشة بالوان قوس قزح..
وتحدث الشاعر الوطني بحرقة وألم ولوعة عن إنفصال الجنوب الحبيب تلك الفعلة التي صنعها شيخ النار وحواريه من أرزقية المشروع الخاسر.. حين تجاوز قصير التيلة حَدَّه في الشَّرِّ كأنه حال هذا المثل (جَرَى الوادِي فَطَمَّ على القَرِيِّ)..
شكرا عميقا للشاعر ود بادي النخلة الصامدة رغم أفات الزمن، لتلك الفرصة النادرة وتكبده المشاق من عين الامارات، ولأسرة النادي السوداني بمنامة البحرين في ليلتها المضمخة بأريج الكلمة الرسالة مساء الخميس الموافق 20 فبراير 2014م ..
وغادرت المكان وكلي غبطة وفرح ولسان حالي يردد رثاء حميد للمغني الراحل مصطفى سيد احمد المقبول..
يا غادي منك فوت كلام الشوق
من القلب الخشم بابو البلد
شقيش مستف وحدتك
سايب بنات الحلة يا كمين ولد
تسترسل الأيام بحر
قبال يقالد القيف شرد
مالك رحيلك دون وداع زي الحرد؟
رواسي راح والجو صلاح
كارب شراع
لا أنفر للريح لا أنفرد
لليلة شان نار الصراع
لهليبا بعدك ما برد
بدلت كيف سعة الوجود
بي ضيق لحد؟
باغتنا ريح الفجعة ليل
فرنب في جوفنا
مرابنا الصبر شال سعن الجلد
صابنا الذهول
زي التكنو قبل دا ما فارقنا زول
قبل الرسول
ولا التقول
أول قلوب في الدنيا يغشاها القدر
بعدن تضيع منو الدروب
تطمبج الساحات حريق
يضوي الفريق المشتعل
كل الفريق شوقر وراك
يا جرحنا المابندمل
لا بان وراك شهد الغنا
ولحن الحناجر ما همل
صاقر خلايا أبو الدبر
يدبن حنايا نمل ... نمل
وين ماشي يا نبض الرحيق
سايب المشاعر ريق دقيق