ليلة دوم نَضِيدة
أنين لا يهز قارعة أحد؛ لا الحجر الفالِقُ حين يمنح الطير الماء، ولا الغبار العالق إذا أطبق على أنفاس الكائنات.
الغائب في تلافيف أقانيمه بشيء من سماح البصيرة يحتل أرخبيل صدره المحتشم بصيانة عرض همس الشارع أمام إتساع إنسان عينه.. لا يحدق إلا لينتظر مرور كتلة كبيرة من الفراغ ومن ثم يَسِق كلمته الصلدة برزانة.. لا تدهشه حتى حاضرات محطات السكة الحديد القديمة والقطارات وأشكال القضبان وعربات الترولي الصدئة التي تملأ المكان... ينفث دخانه بشره مبالغ فيه وكأنه مدخنة وابور من العصور القديمة يدخل على محطة منسية في قفر البلاد ولعلها كانت تلك التي تقع بمحاذاة منطقة دوم درديب الكثيف اليابس.
يسرد لك كل التفاصيل الحية بقوة ويتبلها بروحه المتأنقة ويبللها بنسيج البذرة وينقعها بكيمياء الحياة وماء الدوم الفاقع والحلو.. ويحكي لك بشفافية وشفاهية تضارع مطر عروس الجبال عن كيف ينفتق الجنين عن البذرة مرة أخرى في مشاوير الرهق الائتماني وجدولة الحساب على طهر قوس قزح في حضرة ود خواجة المنشغل بجرد محصول موسم السمسم.
تجده في زهو نشوته يصدح بانغام عثمان حسين العتيقة، ولكن صوته شجي للغاية حينما يتغنى بأغنيات المصطفى ود مقبول.. ولا يحتاج إلى ذريعة ولا حتى ليتحسس مكامن قوته، وحباله الوترية، وصوت المطر لإنتشال حبات السمسم من النهوض نحو دمر الذات أو جبراكة الجرح والقرح.. والساق في وشم سنوات الضوء المسبية تخذلها ملكة الأرواح في حِجرها المصون بسويبة الحبِّ وقسيبة النَّوَى... وقس على ذلك طول أصبع هبنقة الراغب في الهبوط.
يعبر السكة بشهية وصول المشترك الإنساني الحاشد في إحدى محطات السكة الحديد بنواح كل محطات خط الشرق.. وفي كنف عمال الدريسة والعطشجية حياة لا يعدلها طعم آخر فما بالك بحيض الغيم الذي يخضر كل حروفه.
على بؤرة وقائع حضور أكياس الدوم المعبأة بالهتاف الخشن يحتشد الباعة.. وضجيجهم يمثله صنفور، وهتاف ذاك القادم من جوف عتامير درديب، ممتشق النخوة يمشي.. وأسفل ذاكرته حُزمةٌ من البيض ونحوُها يحتضنها بيد جافة، وبالأخرى حبات من الدوم، وبقلبه الواجِف ينظف المحطة من خدر النعاس.. يضمر زاملته وبأمشاط إحساسه ينقش ذكريات العابرين وموجات نسائم البسمة المؤقتة على حوائط بيت الناظر وبيوت المحطة وبيوت الحلة المبنية من الحجر الصخري والمنسوجة بالعشب الجاف والخيش والسعف وبعض أسمال بالية.
هيفاء تتكىء على إنتصاف الليل وتنهدات ملتبسة ومتبرجة وكأنها خرجت للتو خضراء من بين أوراق دومة طويلة مثمرة وعجفاء.. وهي عند البجاوي كل شيء في حياته تلك التاكا.. وإن كانت هى من رحم بما بعد الحدود ولجت حياض محطة الشاحنات بدرديب مع جوغة تصعد بشهيق الغبار الناعم، وتهبط بزفير الشتاء الخشن، وتسمو بأنفاس لطيفة تشعل بها صمت الليل، وتهْدِئَ بها أصوات ماكينات الجرارات الشبقة.
من بين تلك الأوراق اليابسة والمبتلة وذلك المكان المختنق بالعتمة التي تخترقها أشواط من الأضواء المنسربة من فانوس داخلي قابع في داخل البيت المزركش بالبروش البيضاء الناعسة والمكحولة بألوان طازجة.. أو أحياناً أضواء فوانيس مضيئة من أوجه الجرارات الداخلة والخارجة من المحطة أوان مخاضها العسير.. ذلك الوقت لا يعرف لليل منام وتعب لطالما أشواك الجسد يوقظها القمر على صراطه.
خرجت بطولها الفارع وثوبها الفراشي القشيب بماء زرعي معطر، وموَشَّى بطاووس ملون منقُوش؛ كدومة تغزو ظلام درديب الحالك لتفت في عضده خدر لذيذ وبعض نكهة من قتار قدرها.. سخية هي مع من يسيل لعاب حيوانه ويتورط في وليمتها الساخنة من أعشاب الليل.. وهذا هو الواجب لمن يجاورها في ألوان تلك الرائحة... يأخذون حصتهم من مرقة أوراكها على تواضع وينصرفوا جزلين بماء نميرها الوفير.
يقول لها بمنتهى الصراحة: زمانا فات وغناينا مات.. ياااخي شوف الزول داك!
وتنفَّس بملء رئتيه وأستلقى على كف يده المتعرقة بالتعب، وغاب في هزيع موته غير الأخير.. وتركه على مترار شغب النزوة العابرة ينازع لهب ذلك الضوء بكل قساوة.
وهنا البوح مدخل لحنين مستعر بلهاة الذاكرة التي تناجي رشدها الغائب بين هباب الشوق وإمتلاء جذور ضِناكُ القلب بيقين التحلل من كل شيء.. ونزق الجسد يتعلق برائحة الخروج، مروراً بالطور الغازي، وإنتهاءً بسواد السناج الهش.. ومارد الفحم في كهولته يمتص كل رائحة تفوح مصدرها بظر الوقت الأرعن، وفي وجهه رائحة دمّ خاثر.
عطرية اللحظة تزكم أنف البال على لون سُنْجَةٌ؛ هو الرمادي عند أصحاب الفرشاة المائية والزيتية.. بياض النطفة وسواد اللحد على مصاعد دخان السراج في حائط القش المرتجف.
وفي ذلك الزمهريرُ الغامض والمترع بالغباش وغبار الشاحنات والكواكب اللامعة ونهيق حمير صارخ يهتك ستر المكان، وثغاء ماعز تبحث عن بقايا وجبات الليل، ونبيح كلاب تركض لذات الشيء الطازج اللذيذ، ومواء قطط في ليلة سعيدة لا تبكي حظ أنوثتها العاثر.. ضوضاء تروح وتغدو بين أهداب وسن اللحظات القلقة.. يغالبه وجع محتقن في ذاكرته بين تقلبات وتحرشات الكائن الخلوي وأشواقه المارقة والمتنصلة عن أي التزام نحو ذلك المخبوء..
وعنقريب حبال السعف أضيق مما يكون البراح وكأنه لحد النهايات الملتفة، ولا يسع حتى مزمار القيلولة ولا مسمار الليل!
ومضي على صراط كهف ضلالاته وانتصاف المسافة.. وباب الصفيح يصده بوجهه الصديء وخوفه الذي يراقبه.. لا شئ إلا ضوء خافت من فانوس يكاد أن يقول للشيطان طيفا وللسلطان سيفا!
وماله أبو حليمة يمسد كتف الجبال بصوته العذب يحث جلهم حتى البلويت للمزيد من الأتاوات لصالح صاحب الوقت وسلفه في الخِزي الوطني! والوقت هنا منقسم بين أثدائها وعجزها، وبين ذلك المفرق يمر كل القابضون على مقود الحديد وينزلقون إلى البيت الدافيء بلزوجة الرطوبة.. وفي أكنافها راحة للعابرين الوهاد.
وفجاءة تصحو بمقدار جافّ طرقعات طفل صغير يلهو بقطع مقطعة غير متناسقة من الدوم.. يحركها في جوف الليل.. لا يعبأ بالبرد القارِسٌ ولا صوت الشاحنات المزعج الذي يتصاعد كلما يوغل الليل مسافة في نسيج عصبه المنصوب على أحلامنا.
أظن ذلك يحدث وما جرى بالضبط.
ولليل حديث شتوي آخر ومختلف بطعم البعو.. فالصوت لطفل يصرخ بشدة من سعال مزمن مع بلغم مشوب بالدم ومترافق مع أنين خافت يملأ أركان المباني المحيطة بمربع ترابي خائر وغائم في نعومة يصعب رصدها في تو الانتصاب الأعرج.
والكائن يمشي في دائرة مغلقة تفوح بنداوة عطور تشبه اللائي كنَّ يتبخترنَّ في غزوتهنَّ النهارية لدكان خواجة سنكات.. وما أعذب تاجر العطور حين تفيض سوحه بماء الزهور الناضحة على أجسادهن في شتاء البلاد وشبورتها الصباحية اليافعة.
نَفَثَ جُرح الغبار دم داكن ومغسول بسعال دموي غامض.. وبصق ذلك الطفل شيئا ما.. ربما عصارة مسكيت صفراء أو نخالة دوم متكومة بصدره وخرجت للعلن مصحوبة بخروج مخاط دموي يسيل.
وما زال في غمده عصفور شبق بصراصير الليل.. ويأخذ فرط نمو الشهوة سيرورة السحاف في جسد الطفل المنحول.. نمو حتى الموت، وفي ربقة الموت راحة لذلك الكائن المترف حتى فص النخاع.
وتناول دومة طرية وأخرى جافة وما درى بأن هذه الثمار الخشبية تشتعل بضرواة غناء الجسد وترتفع بالحيوان إلى مراقي علو بمستوى الهرمون والقدرة وزيادة الحيامن.
وتضطرب الحالة والأنثى الدومة! ويختلي الليل بقشرتها السمراء وتنهش اللحظات عواء الرغبات المكبوتة. والكائن المقدس سره في الدم..
ومن الدم يتفرع بركة والقاش والاتبراوي وباسلام وتنشرح الأرض وشرايينها وتفور قهوتها عطسة حارقة لمزاج دلتا طوكر ومساقي القاش، والسماء شاهد على التفاصيل الحبلى بفحولة المطر.
دم الشهوة يغلي والمال يدعم الموقف التفاوضي جيدا وقوانين الطبيعة في مثل هذا الوقت لا تسمح بغير الانتماء.. الانتماء إلى حبل الدومة السري أو جذعها المعقوف أو الذوبان كما تذوب قبضة من الرمل في الماء.. ويقينه أنه الموت على صدر جرار كبير.
حاول المنفلت مع تبرير يخلصه من حرج القشعريرة بأن يجعل مهره لتلك الدومة البالغة النصاب.. إذ سيكتب في وثيقة النكاح 4 نياق وعشرة من الأغنام وخمسة من أعواد الدوم الأخضر.. مثل البجاوي العريق أيامئذ.
ومد يده ليحمي قسمه من الهوان وريح الشتاء العبوسة.. وأقسم على شجرة الدوم كرجل صادق يحترم ويقدس هذه الشجرة بهذه الانحاء حين يعجز المكان عن توفير كتاب كامل الدسم لأداء القسم أوان الخصومة.
وغاب ذلك الصوت المتحشرج لفترة من الوقت واستبد بحاجب ظنها وأقترن بأُفق السماء واستطار الفجرُ وفشا في ثوب المكان بِلَى..
وطرق باب الوقت حتى غدا على وقع حافر الشمس إيذانا بيوم جديد بين شعاب الأراك وضجيج الباعة وسحب بخار الشاى ومحطة خالية من كل الرجال الذين رحلوا على ظهور أبل الحديد مع صقع ديك المحطة.
ومن ماء الدومة صنع دومته الأخيرة واليتيمة وسادة لشجن الفرح والقلب معلق على ضفة النسيان والهزيمة حين إنهمرت دموع سقطته متدحرجة على التراب الناعم.. ومن اللحاء والأوراق والأعواد والثمرة حياة هنا بذرى وطن الفؤاد الثمل بالسمراء الباسقة ذات الطلعٌ النضيدٌ..
ومن الشجر نار يوقد طين القلب اللازب ويقيه شر قحط الماء.
البرد يسيل أو يتجمد إلى حيث لا يريد.. والدومة تنمو بأضلعه من نشاز الهرولة صوب صدرها المكتنز بصهيل رماد الأمنيات. والجميل يختبئ في مستودع الروح ذكرى سائلة لغياب فاكهة الشيطان.